للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذا الشأن، وأوحد وقته علمًا وورعًا وحالًا وأدبًا (١) ".

فإذا فصلنا ما أجملته، وأشارت إليه أقوال المتقدمين هذه، قلنا إن ذا النون المصري قد كانت له ثقافتان: إحداهما ثقافة علمية دينية، والأخرى ثقافة علمية دنيوية، وإن لهاتين الثقافتين أثرهما في تكوين حياته الروحية الخالصة.

أما ثقافته العلمية الدينية فتتبين إذا عرفنا أنَّه تلقى علوم الشريعة والحقيقة عن بعض الأساتذة حينًا، وعن طريق الرواية حينًا آخر. على أننا لا نعرف من أساتذته إلا اثنين: أحدهما يعرف باسم إسرافيل، والآخر يعرف باسم شقران العابد. وقد ذكر السراج الطوسى إسرافيل هذا بما يبين أنَّه كان أستاذًا لذى النون فقال ما نصه: "سمعت الوجيهى يقول: سمعت الطيالسي الرازي يقول: دخلت على إسرافيل أستاذ ذى النون رحمهما الله وهو جالس ينكت بأصبعه على الأرض، ويترنم مع نفسه بشيء، فلما رآني قال: أتحسن تقول شيئًا، قلت: لا، قال: أنت بلا قلب (٢) ". وقد ذكر جامى إسرافيل هذا باسم إسرافيل المغربى أستاذ ذى

النون. أما شقران العابد فقد كان شيخًا لذى النون في الطريقة (٣).

وقد عاش ذو النون في عصر حفل بكثرة من ظهر فيه من أئمة الفقه وعلماء الحديث ومشايخ الصوفية: فاتصل بأولئك وهؤلاء، وتأثر بهم، وأخذ عنهم، وكان لهذا كله ثمراته اليانعة ونفحاته الرائعة في حياته الروحية: فهو قد اتصل بالإمام أحمد ابن حنبل واجتمع به، كما اجتمع به غيره من مشايخ الصوفية الذين كان منهم بشر الحافى والسرى السقطى ومعروف الكرخى (٤)؛ وهو - كما يقول عنه الذهبي في تاريخه الكبير - قد روى عن مالك والليث وابن لهيعة والفضيل بن عياض وابن عيينة ومسلم


(١) الرسالة القشيرية، ص ٨.
(٢) اللمع في التصوف، ليدن ١٩١٤، ص ٢٨٨.
(٣) وفيات الأعيان، ج ١. ص ٢٨١.
(٤) كشف المحجوب ص ١١٧.