وكثير غيرهم من المؤرخين والمترجمين قد أفاض في بيان تلك الكرامات إفاضة لعلها تجعلها أقرب ما تكون في بعض الأحيان إلى الأساطير الخيالية منها إلى الحقائق الواقعية التي يمكن اخضاعها لقوانين العلم وتفسير العقل.
على أننا نجمل هنا القول في تلك الكرامات التي تنسب إلى ذى النون بذكر ما كان يقال من أن روحه الشريفة كانت من القدرة بحيث تستطيع أن تدبر أجسامًا متعددة. ولعل فيما فسر به ابن عربى، وهو الصوفى المتفلسف أو الفيلسوف المتصوف، تدبير
الروح الواحدة للأجسام المتعددة ما يمكننا من فهم هذا الضرب من الكرامة فهما إن لم يكن علميًا من كل الوجوه فهو على الأقل مقارب له من بعضها، أو مقرب لفهمها فهمًا علميًا: فقد ذهب ابن عربى إلى أن الروح الواحد يدبر أجساما متعددة إذا كان له الاقتدار على ذلك، وأن ذلك إنما يكون في الدنيا للولى بخرق العادة، وأن نشاة الإنسان تعطى ذلك في الآخرة، وقد قال ابن عربى عن ذى النون المصري وقضيب البان إنهما ممن لهما هذه القوة يدبران بها الأجسام المتعددة، كما يدبر الروح
الواحد سائر أعضاء البدن من يد ورجل وسمع وبصر، وكما تؤاخذ النفس بأفعال الجوارح على ما وقع منها فأى شيء وقع من هذه الأجساد التي تدبرها روح واحدة، فإنما يسأل عنه ذلك الروح الواحد، وإن كان عين ما يقع من هذا الجسم غير ما يقع من
الآخر (١)
على أن في حياة ذى النون الروحية جانبا آخر يختلف كل الاختلاف عن جانبها العلمي والعملى بالمعنى المدينى الَّذي وقفنا عليه حتَّى الآن، وأعنى بهذا الجانب الآخر ما يظهرنا عليه بعض الذين ترجموا له وتحدثوا عنه وعن علمه، فإذا هو عندهم من العلماء الواقعيين المشتغلين بصناعة الكيمياء تارة، ومن الحاذقين للغة السريانية، يقرؤها ويترجم عنها، ويقرأ ويترجم غيرها من النقوش التي كانت توجد في بعض برابى مصر في زمانه تارة أخرى: فالمسعودى الَّذي توفى بعد