الاعتذار، فلا يعقل أن يحقد بعد الاعتذار، ويعف قبل الامتناع، فلا يعقل أن يطمع في الازدياد (١).
على أن أهمية ذى النون في تاريخ الحياة الروحية الإسلامية لا ترجع إلى هذا الضرب من تحليل أخلاق النفس وبيان آدابها وآفاتها من الناحيتين النفسية والأخلاقية فحسب، وإنما هي ترجع أولا وقبل كل شيء إلى هذا التحليل الرائع الَّذي يقدمه لهذه الآفات وتلك الآداب، ونتبينه من خلال ما يعرضه من تعريفات الأحوال والمقامات وتصنيفاتها: فقد كان ذو النون - كما لاحظ السلمي وغيره ممن ترجم لذى النون - أول من عرف وصنف وعلم الأحوال ومقامات أهل الولاية. وقد رسم أبو سليمان الدارانى الخطوط الأولى للطريق إلى الله، ولكن هذا الطريق إلى الله قد انتهى على يد ذى النون إلى غايته، واستكمل صورته
النهائية التي أخذتها عنه، واعتمدتها من بعده كتب التصوف القديمة، صحيح أن عدة الأحوال والمقامات تختلف من مؤلف إلى مؤلف، وصحيح أيضًا أن ترتيب هذه المقامات وتلك الأحوال يتباين في كتاب من كتب الصوفية عما هو عليه في كتاب آخر، وصحيح بعد هذا كله أن ما يعده بعض الصوفية والمؤلفين حالًا قد يعده البعض الآخر مقامًا، وما يعده هذا الصوفى أو ذاك
من المقامات قد يعده غيره من الأحوال، ولكن ليس من شك مع هذا كله في أن فكرة التدرج من مقام إلى مقام، وانتقال
النفس من حال إلى حال، وتعريف كل حال وكل مقام وتحليله إلى عناصره النفسية والأخلاقية والإبانة عن حقيقته بالاشارة إلى علاماته أو أعلامه أو أعماله، كل أولئك قد حفلت به أقوال ذى النون الَّذي أفاض فيها إفاضة لم يكن لغيره من الصوفية المعاصرين له أو الزهاد المتقدمين عليه سابق عهد بها.
وليس من شك أيضا في أن الذين جاءوا بعد ذى النون من الصوفية المتحققين، ومن المؤلفين المحققين، قد استرشدوا بما خلفه الصوفى المصري في هذا الباب، وبما اتبعه فيه من تعريفات وتصنيفات. وفى هذا يقول الأستاذ ماسينيون إنه منذ نهاية القرن الثالث