رحل بعد ذلك لطلب العلم فقدم العراق ثم الشام فالحجاز وانتهى باليمن؛ وعنى فى هذه الأسفار بدراسة الحديث بنوع خاص. ولما عاد إلى مسقط رأسه حضر دروس الشافعى فى الفقه وأصوله من عام ١٩٥ إلى ١٩٧ هـ (٨١٠ - ٨١٣ م). وقد حددت أقوال أهل الحديث القدامى وجهة تفكيره فى العقيدة والفقه على نحو ثابت لم يتغير. وأتاحت له الفرص بعد ذلك أن يبرهن على ثباته هذا فى عهد الخلفاء المأمون والمعتصم والواثق (٢١٨ - ٢٣٤ هـ - ٨٣٣ - ٨٤٩ م) عندما أقرت الدولة "عقائد" المعتزلة وأنزلتها المنزلة الأولى وأخذت بالشدة كل الفقهاء الذين لم يقولوا فى غير تحفظ بمذهب خلق القرآن وكان ابن حنبل أحد هؤلاء الفقهاء الذين أصابتهم المحنة. فقد سيق مكبلًا بالأغلال للمثول بين يدى المأمون بطرسوس، ولكن بلغه فى الطريق نعى هذا الخليفة. وفى عهد خليفته المعتصم احتمل فى صبر بالغ ما ناله من إيذاء وسجن دون أن يتسامح فى شئ من عقائد السلف. ولم تكف الدولة عن إيذاء ابن حنبل إلا فى عهد المتوكل عندما أخذت تعود إلى مذهب أهل السنة، فقد قدَّره هذا الخليفة فى مناسبات مختلفة ودعاه إلى بلاطه وأجرى معاشًا على أسرته دون علم منه وقد جذب علمه وورعه واستمساكه الذى لا يلين بالسنة جمهرة من التلاميذ والمعجبين إليه، وتوفى ابن حنبل ببغداد فى الثانى عشر من ربيع الأول عام ١٢٤ هـ (٣١ يولية سنة ٨٥٥ م)، ووصف كتّاب سيرته دفنه وصفًا أسطوريًا. وقبره الذى نسج حوله كثير من الخوارق Muhomm.Stid Goldziher)، ج ١، ص ٢٥٧) وكان يقوم بين "مقابر الشهداء" فى يحيى الحربية ببغداد، ظل مدة طويلة محل تقديس الناس كأنما هو قبر ولى، فلما خرب فيضان نهر دجلة هذا القبر حوالى آخر القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادى) تحول تقديس الناس إلى قبر ابنه عبد الله الذى كان يوجد بين مقابر قريش قرب باب التبن ورممه تيمور عام ٦٩٥ هـ (١٢٩٥ - ١٢٩٦ م). ومنذ ذلك الوقت اختلط الأمر بين القبرين وتحولت الشعائر الدينية التى كانت تقام لأحمد إلى ابنه عبد الله Baghad during the Ab-: G.Le Strange baside Caliphate، ص ١٦٦).