والحق إن ابن حنبل لم ينشئ مذهبًا خاصًا فى الفقه، ولكنه أفصح عن وجهة نظره فى مسائل فقهية معينة سأله عنها تلاميذه، نذكر منها على سبيل المثال "مسائل صالح" وهى المسائل التى وجهها إليه ابنه صالح، وكذلك أجوبته على مسائل تلميذه حرب (ابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية، القاهرة سنة ١٣١٧ هـ، ص ٢٥١، ٢٩٣ وما بعدها). وقد بلغت فتاواه التى استطاع ابن قيم أن يرجع إليها نحو عشرين سفرًا (هداية الحيارى، القاهر: ١٣٢٣ هـ، ص ١٢١)، ورتب بعض تلاميذه فى حياته أنظاره الفقهية، تخص بالذكر منهم أبا يعقوب إسحاق الكوسج الذى كان يرجع إلى ابن حنبل مباشرة كلما أشكل عليه الأمر؛ (الذهبى: تذكرة الحفاظ، ج ٢، ص ١٠٥)؛ ثم يجئ بعد ذلك بقليل أبو بكر الخلال "مؤلف علم أحمد ابن حنبل وجامعه ومرتبه؛ (الكاتب نفسه، ب ٣، ص ٧) المتوفى فى بغداد عام ١٣١ هـ (٩٢٣ - ٩٢٤ م)، وقد ذكر كتاب أبى بكر هذا ابن قيم الجوزية المتوفى عام ١٧٥ هـ (١٣٥٠ م) فى كتابه "أعلام الموقعين" (انظر ذيل الطبرى: المعجم الصغير، ص ٢٧١) مع أنه لم يقرأ هذا الكتاب فيما يظهر. والتعاليم التى نمت على أساس أنظار ابن حنبل والتى عرفت بالمذهب الحنبلى قد أجمع أهل السنة على أنها أحد المذاهب الأربعة المعترف بها. ولما كان ابن حنبل من "أهل الحديث" فإنه لم يأخذ بـ "الرأى" إلا عند الحاجة الماسة،
وهنا أيضًا كان يستخرج الأحكام من النصوص كلما أمكنه ذلك، وقد حمله هذا على شدة العناية بالحديث، وكان فى بعض الأحيان يعتمد على أحاديث ضعيفة فى تكوين أحكامه، ولم يبلغ مذهب من مذاهب أهل السنة فى إنكار "البدع" مبلغ المذهب الحنبلى، ومن ثم اشتط أنصاره فى التمسك بالشعائر الدينية والروابط الاجتماعية وفاقوا أهل المذاهب الأخرى فى التشدد والتعصب. وتتصل عقائد أهل هذا المذهب بعقائد السلف الذين عاشوا قبل الأشعرى، بل لقد اضطر الأشعرى نفسه عند تكوينه مذهبه أن يستند فى مواضع عدة إلى مذهب ابن حنبل، بغية اكتساب المسلمين إلى جانبه، وصرح أيضًا بأنه يتفق