للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

المثل العليا الدينية والشرعية مركز الرياسة، وبقى الحال كذلك من بعد، ويستثنى من ذلك، بعض الاستثناء، العباسيون الأولون، وعند ذلك طاب لهم -وقد أصبحوا غير مقيدين بالواقع كما كان الحال من قبل- أن يمضوا فى التوسع فى نظرتهم عن الواجبات على نحو مثالى أصبح يوما بعد يوم يزداد مخالفة للحياة العملية. وهم كانوا ينظرون إلى الحياة كلها بمنظار الدين، فنظروا إلى القانون أيضًا بهذا المنظار وصاروا يستخلصون الأحكام الفقهية لا من القواعد الموجودة فى القرآن وحسب بل يستخلصونها أيضًا من الروايات الصحيحة لأقوال النبى عليه الصلاة والسلام وأفعاله (١): وهم فيما يتعلق بالقانون العام اشتدوا بصفة خاصة فى محاربة أى فساد بصرف النظر عن الأشخاص، لكنهم أظهروا أيضًا فى عرض المسائل ما هو معروف عند "الربانيين" من روح الجدل فى استنباطات وتفريعات افتراضية متجددة الصورة دائمًا، وهكذا نشأت مدرسة، أو قل هيئة فقهاء، من المجلس الذى كان يحيط بالخلفاء الأولين. ولم يستسلم أهل التقى إلا بعد محاولات كثيرة غير مثمرة أرادوا من ورائها أن يعودوا إلى السلطة وعقدوا نوعا من الهدنة مع الدولة، هدنة لم تُكتب فى أية وثيقة ولم توضع شروطها وضعا صريحا فى أى مستند، لكن الطرفين احترموها تحت وطأة الظروف. وعبثا حاول الخلفاء الأولون من بنى العباس أن يملئوا الفجوة التى وجدت بين الشريعة وبين واقع حياة الدولة (٢) وكان أهل التقى يطيعون الحكومة عمليا (وكان فى الشريعة من الفهم لأمور الدنيا ما يكفى لأيجاب طاعة كل سلطة إسلامية موجودة بالفعل) (٣)، لكنهم احتفظوا لأنفسهم بكامل الحرية فى أن ينقدوا الحكومة نظريا, ولذلك يجد المرء دائما الشكوى من "هذا الزمان" والتحذير من "أمراء الدنيا". وكان هؤلاء الأمراء من جانبهم يعترفون بقانون الشريعة وهم أيضًا لم يدعوا


(١) من قوله: وهم كانوا ينظرون إلى الحياة كلها حتى هذا الموضع منقول من المختصر.
(٢) من قوله: وعبثًا حاول الخلفاء إلى هذا الموضع منقول من المختصر.
(٣) ما بين القوسين منقول من المختصر.