عناية خاصة بالمحافظة على طابع المدينة المدينى، وتجلّى ذلك فى أول زيارة قام بها المنصور العباسى، الذى ما كاد يعود إلى بغداد سنة ١٤٠ هـ (= ٧٥٨ م) بعد أن فرغ من حجه بمكة حتى بادر بالذهاب إلى القدس (الطبرى تاريخ جـ ٣ ص ١٢٩) وربما فعل المنصور ذلك ليفى بنذر نذره على نفسه -كما يقول المسعودى جـ ٦ ص ٢١٢) بمناسبة مرور مائة عام قمرى منذ أن بويع معاوية فى المدينة المقدسة ثم كانت الزيارة الثانية للقدس هى التى قام بها الخليفة العباسى نفسه سنة ١٥٤ هـ (= ٧٧١ م) بسبب حدوث فتنة كبرى فى المغرب (الطبرى تاريخ، جـ ٣ ص ٣٧٢)، وقد صحبه حتى بيت المقدس العسكر الكثير الذين جمعهم بنفسه للقضاء على هذه الفتنة (راجع الفتوح للبلاذرى ص ٢٣٣ وابن الأثير جـ ٥ ص ٤٦٧)، كذلك قام ابنه المهدى بزيارة القدس والصلاة بها (الطبرى تاريخ جـ ٣ ص ٥٠٠). أما هارون الرشيد فلم يزرها قط إذْ منعه من ذلك ما اعتاده فى الغالب من الحج إلى مكة بين عام وآخر ومداومته الحضور إلى الشام لمحاربة بيزنطة، وكان ابنه المأمون مثله فى هذا الأمر رغم أنه سافر إلى الشام بل والى مصر وإلى كثير من الأقطار غيرها، وكذلك لم يزرها قط أحد من الخلفاء العباسيين الذين جاءوا بعده. ولقد كان التغيير فى الموقف يعكس الاتجاه الجديد للنزعة الإسلامية التى تكره "البدع" التى أذاعتها الأساطير عن القدس.
ويقرر أحدهم (Theophanes: I, ٤٤٦) أن المنصور فى أثناء زيارته للقدس أمر جميع المسيحيين واليهود بها أن يكتبوا بالوشم أسماءهم على أيديهم حتى لايستطيعوا الهروب من دفع الجزية، لكن ترتب على هذه الإجراءات فرار كثير من النصارى عبر البحر إلى بلاد الروم، ولقد اتخذت هذه الاجراءات وأمثالها قبل ذلك بزمن بعيد، ولكن اتخاذ هذه الإجراءات تجاه القدس فى أثناء هذا الوقت يوضح مبلغ الزيادة الضخمة فى أعداد سكان المدينة المسلمين والذميين، كما ازداد اندماج العناصر المختلفة بعضها ببعض إلى حد كبير. ولابد أن هذه الزيادة كانت ترجع