ولم تصل إلينا الأمثال مجموعة فى كتاب -بل وفى نسخة أصلية كتبها المؤلف نفسه- إلا فى كتاب "الأمثال لأبى عبيد (ت ٢٢٤ هـ/ ٨٣٨ م) وهو مدين فى مادته الغزيرة -التى لم يجمعها بنفسه إلى التراث وبصفة خاصة للمعلمين وفقهاء اللغة الذين سبق ذكرهم. والسبب فى ذلك أن ثمة حالات يقول فيها المؤلف "لا أعلم على وجه التحديد ممن سمعت هذا المثل" أو "سمعته من شخص ما غير أبى عبيدة لعله ابن الكلبى" أو ما شابه هذه التعبيرات. ففى كتاب الأمثال الذى نقله الطوسى عن المفضل لا نجد ذكرا لاسم المفضّل بطريقة محددة، وذلك فى بعض أجزاء الكتاب حيث نجد تعبيرات مثل "حكى أن" أو "روى أن" أو "ما بلغنى أنه" أو ما شابه ذلك، وحين ينقل عن المؤرِّج فإنه يذكر المثل بكلمة "قال" وينطبق هذا على باقى فقهاء اللغة، أما رواية اليزيدى لكتاب الأمثال فلم يرد بها أى ذلك موثق من شخص فى منزلة هؤلاء الثقات. وكان الجاحظ يعرف مجموعة أمثال وكذلك الأقوال المأثورة للخليفة المنصور إذ كانت شائعة لدى كتاب بغداد (كتاب البيان) وابن المعتزلة مجموعة ذكرها فى "كتاب الأدب" وكان يطلق على الأقوال الحكيمة من هذا النوع اسم "الأثر".
وبعد وفاة أبى عبيد فى مكة استطاع أحد تلاميذه -وهو على بن عبد العزيز البغوى الذى عاش بعد وفاة أستاذه لمدة ستين عامًا- أن يزود كتاب أستاذه بشروح وضعها الثقات فى التاريخ العربى والإسلامى، مثل الزبير بن بكار (ت ٢٥٦ هـ/ ٨٧٠ م) أو سلمة بن عاصم. وهو تلميذ للفراء.
وبذلك أصبح فى مقدوره أن يقرأ هذا النص بحواشيه ويشرحه للحجاج فى الحلقات التى يعقدها لهم، ومن هنا ذاعت وانتشرت على نطاق واسع مجموعة الأمثال التى جمعها أبو عبيد، مصحوبة بهذه الشروح وشروح أخرى غيرها، حتى بلغت الأندلس غربا وخراسان شرقًا، فلم يقتصر الأمر على طرحها وكتابة حواش عنها بل غدت نقطة انطلاق لكل مجموعة أمثال لاحقة،