للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ويظهر أن المسلمين فى هذا العصر يغلب عليهم الميل إلى الرأى الأخير.

على أنه إذا كانت أراء المتكلمين الأولين تُقيل لقدمها وإلف الناس لها فإن علم الكلام النظرى يميل اليوم إلى التنزيه شيئًا فشيئًا.

أما النزعة الثانية فهى النزعة العقلية: يسلم المتكلمون جميعًا بضرورة الرجوع إلى العقل، غير أنهم يختلفون فى كونه حجة صحيحة فيما يتعلق بأحكام العقائد.

وقال المعتزلة صراحة بتحكيم العقل فى النظر المدينى، وأنشأوا مذهبهم الكلامى مستندين إلى العقل، وقد رأينا أنهم فى كلامهم عن ذات الله تغالوا فى نفى الصفات لأنها تفضى إلى نفى التوحيد، وأقل ما ذهبوا إليه فى نفيها هو أن الصفات هى نفس الذات لا أنها فى الذات، غير أنهم كانوا أميل إلى إنكارها جملة، وإلى القول بأن الله ذات مجردة يصعب تعقلها.

هذا إلى أنهم أنكروا القضاء السابق لأنه مناف للعدل. وكان إنكارهم لرؤية الله فى دار القرار من آثار غيرتهم على تنزيهه. فالأصول الثلاثة: العدل والتوحيد والتنزيه هى أصول مذهبهم بالإجمال، أسسوها ودافعوا عنها بالطريقة الكلامية، وكان اصطناعهم لهذه الطريقة مما دفع أهل الحديث فيما بعد إلى اتخاذ نفس وسائلهم. على أن مذهبهم الكلامى كان مجرد دفاع عن العقائد لأنها كانت قد وضعت وسلم بها الناس. ولكن هذا لم يمنع من محاولتهم بناء العقائد من جديد، غير أنهم لم يفلحوا إلا فى صوغها فى صورة جديدة.

ولم يقبل أهل السنّة طريقة المتكلمين قبولًا تامًّا إلا فى أوائل القرن الرابع الهجرى، وخصوصًا على يد الأشعرى. وبعد ذلك وضع علم الكلام الذى يوفق بين الدين والعقل، ولم ينكره إلا المتطرفون من أهل الحديث. ومذهب الأشعرى فى صورته النهائية لم يحد قيد شعرة عن مذهب أهل السُّنة، فلم يخرج عن العبارة المشهورة "بلا كيف ولا تشبيه". والشطر الأول من هذه العبارة موجه ضد المعتزلة، والثانى