كيلو مترا من بغداد جنوبا، ويعرف الآن باسم "طاق كسرى" وتسمى الناحية التي بها "ناحية سلمان باك" باسم الصحابى سلمان الفارسى. وكان الإيوان لم يزل قائما حتى أيام المكتفى في حدود سنة ٢٩٠ هـ. ويقف البحترى أمام هذا الإيوان وقفة الشاعر صاحب الحس المرهف فيراه ثابتا على الزمن، جلدا على الأحداث، فتنعكس صورة حياته على الإيوان، وتنعكس صورة الإيوان على نفسه. وتتألف الصورتان، وينظر إلى ما في نفسه من تزعزع، فيتماسك كما يتماسك أمامه هذا القصر على رغم ما مر به من أحداث وأزمان، ويرى في أعماق نفسه أنه يجب ألا يقل في تماسكه عن هذا الجماد. وتنطلق انفعالاته النفسية من مكمنها، فهو يصور أحزانه وآلامه وضيقه بالغربة في سبيل العيش. ثم يطابق بينه وبين هذا القصر الذي خلا من كل ما كان يجرى فيه من مباهج الحياة متجردا من بسط الديباج ومن ستور الدمقس، فيجد صورة حياته هو وقد رحل عن جاه عريض ومجد طال أمده في رحاب خلفاء العصر ووزرائه في بغداد. صورتان متماثلتان: جماد يتماسك على الزمن، وإنسان كاد أن يتهاوى، ولكنه يتماسك حين زعزعه الدهر التماسا لتعسه ونكسه.
هذه الصورة هي بذاتها الصورة التي عكسها علينا الشاعر في صباه في قصيدته عن "الذئب"(القصيدة رقم ٢٨٩) التي طابق فيها بينه وبين الذئب الذي طرقه جائعًا وهو يضرب في مجاهل الصحراء. كلاهما يضرب على غير هدى، وكاوهما جائع، عوامل الشر وعوامل الخوف تنتاب كلا منهما. وغريزة حب البقاء تستولى على كل منهما بالصورة التي تتفق مع لون دفاعه.
والقصيدتان صورتان من أروع ما حفظ لنا تراثنا الخالد وقصيدة الإيوان قد رأى بعض المحققين أن البحترى نظمها عقب مقتل المتوكل مباشرة. والحقيقة غير ذلك، فقد أثبتنا أنها نظمت بعد هذا الحادث بثلاث وعشرين سنة. أي حوالي سنة ٢٧٠ هـ، فإن البحترى لم يتجه إلى إيوان كسرى عقب مقلر المتوكل بل اتجه إلى الحجاز فحج كما ذكرنا ذلك من قبل.