وقد أجاب بأن هذين البيتين قيلا في مدح امرأة عامية، وهما عندها أحسن من "قفا نبك" وهو جواب يدل على بصره بمقامات الكلام، فما يخاطب به العوام يختلف أشد الاختلاف عما يخاطب به الخواص.
وحيرة بشار بين المذاهب السياسية والدينية منحته القدرة على التصرف في تلوين الكلام بألوان مختلفات، فهو يمثل عصره أصدق تمثيل، وهو صورة للشاعر المرتاب الذي يصارع الأمواج، في خضم القرن الثاني حين التقى البحران: بحر البداوة وبحر الحضارة في محيط الحياة الإِسلامية.
وغرام الناس بمكايدته ومغايظته خلق منه داهية من الدواهى: فهو يواجه الناس بمخازيهم ومعايبهم بلا تحفظ ولا احتراس، وقد أمعن في ذلك وأسرف حتى انتهى إلى القتل.
وانغماس بشار في حمأة الحياة اليومية جعله من أقدر الناس على النكتة، فهو شبيه كل الشبه بظرفاء القاهرة في هذه الأيام، والدعابات الآتية تشرح مذهبه في ذلك:
مر برجل قد رمحته بغلته وهو يقول: الحمد لله شكرًا: فقال له بشار: استزده يزدك!
ومر به قوم يحملون جنازة وهم يسرعون بها المشي فقال: ما لهم مسرعين؟ أتراهم سرقوه فهم يخافون أن يلحقوا فيؤخذ منهم!
ودخل يزيد بن منصور على المهدي وبشار ينشده قصيدة مدح، فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد فقال: ما صناعتك يا شيخ؟ فقال: أثقب اللؤلؤ.
وهي كناية خبيثة لا يقدر عليها غيره في ذلك الموقف.
ورفع إليه غلامه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم فقال: والله ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة أعمى بعشرة دراهم. والله لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم.