للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وعوتب على جمع الصلوات فقال: الذي يقبلها تفاريق يقبلها جملة.

ولبشار فكاهات كثيرة، وهي تشهد بأنه وصل إلى غاية عالية من دقة الحس وبراعة الذوق.

وكان بشار صلة بين القديم والجديد، القديم الذي يستمد قوته من الأخيلة البدوية، والجديد الذي يستمد قوته من الأخيلة الحضرية. ولكن أهل زمانه فيما يظهر لم يكونوا جميعًا راضين عما في أشعاره من طرافة الحديث، ومن هنا رأيناه يشكو وجوده في عصره.

والرواة الذين عاصروا بشارًا جعلوه آخر من يحتج بشعره، ويقوى هذا الشاهد إذا تذكرنا أنهم استثنوا بشارًا لينجوا من لسانه الخبيث.

والظاهر أن بلية بشار بفقد بصره جعلته شديد الشوق إلى مظاهر الحياة، فهو يلتمسها فيما يسمع وما يلمس. ومن أجل ذلك كان في تشبيبه ميالًا إلى الفتك, ولو حفظ شعره كله لكانت له منزلة بين كبار الماجنين.

ويظهر أن انحراف بشار صرف الناس عن تدوين شعره فضاعت منه ألوف القصائد، ويتضح ذلك إذا تذكرنا مصير المؤلفين والشعراء والكتاب الذين ضاعت مصايرهم في غمرة الفتنة الأثيمة فتنة الشعوبية.

وربما جاز أن يقال إن بشارًا لم يكن بفطرته خفيف الروح والذي يفقد خفة الروح يتناساه الناس عامدين.

وجملة القول في بشار أنّه استطاع بذكائه وإحساسه وجبروته أن يكون شخصية باقية في الأدب العربي، ولعل شهوده للانقلاب الهائل في الدولة العربية وانتقالها من عهد إلى عهد كان له فضل في تنبه قواه العقلية والذوقية، فما كان ذلك الانقلاب إلا رجة خطيرة مزعجة توقظ الغافيات من الأذواق والأحاسيس.

وأعظم الشعراء والكتاب والخطباء والمؤلفين هم الذين يشهدون عهود الانقلاب.

والشر قد يكون بابًا إلى الخير في كثير من الأحايين.

زكي مبارك