للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

يلتزم مذهبًا من المذاهب الأربعة المقررة (١).

وثمت طائفة لا بأس بها من المسائل يرجع فيها من مذهب إلى آخر (Vorlesungen ueber den Islam: Goldziher, ص ٢٥؛ الطبعة الثانية، ص ٤٨ - ٥٠) واختلفت الآراء في شأن هذا الرجوع وفي جوازه من الناحية النظرية Handleiding: Juynboll) الطبعة الثالثة، ص ٢٢). وكثيرًا ما يحدث أن تعرض مسألة ويتبع فيها أحكام مذهب آخر أصلح من غيرها من الأحكام. وتشير كتب الفقه نفسها أحيانا بجواز التقليد في هذه الحالة ولكن يشترط أن تنظر المسألة إلى غايتها طبقًا لأحكام المذهب الملتزم.

كل هذا جائز في التقليد في مسائل الفقه. أما في العقليات كمسائل الأصول فإن لدنيا رأيًا ثالثًا إلى جانب الرأيين القائلين بوجوبه وجوازه، وهذا الرأى لا يجيزه لأن هذه المسائل تقتضي العلم، ولا يحصل العلم بالتقليد وحده. وكان الأشاعرة هم الذين أذاعوا هذا الرأى المعتزلى في


(١) ليس هناك أي دليل على وجوب اتباع مذهب من المذاهب الأربعة. وإنما هذه كلمة شاعت عند العوام في عصور ضعف فيها العلم، واشتدت العصبية بين العلماء لمذاهب الأئمة الذين تبعوهم، وقد كانت هناك أيام العصبية مذاهب أخرى يتعصب لها أتباعها، كمذهب داود الظاهرى ومذهب ابن جرير الطبري - صاحب التفسير - ومذهب الأوزاعي وغيرهم. ثم ضعف العلماء فقلدوا العوام والجهال في العصبية للمذاهب الأربعة، ومن عجب أن يقلد العالم الجاهل. وأما الأئمة رضي الله عنهم فما كان أحد منهم ليرضى أن يقلده أحد، بل كانوا يعلمون العلم ويظهرون الناس على أدلتها ويجادلهم تلاميذهم وأتباعهم، ويوافقونهم ويخالفونهم. ولم يجعل الله قول أحد من العلماء حجة على الناس. بل الحجة في الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة والاستنباط منهما، وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله [- صلى الله عليه وسلم -]، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فما علمه العالم من الدليل واقتنع به وجب عليه اتباعه، وحرم عليه أن يخالفه لقول أحد كائنًا من كان، في كل عصر وحين. وإنما أوهم الناس في هذا الشأن أن ظنوا أن معنى "الاجتهاد" أن يكون العالم المجتهد إمامًا في كل علم وفي كل مسألة، وأن يضع للناس مذهبًا يتبعونه ويلزمون به، ولم يقل هذا أحد. والاجتهاد بلوغ الجهد في المسألة. فرب عالم متوسط درس مسألة واحدة وأتقنها وعرف وجه الحق فيها، ووصل إلى ما لم يصل إليه أعلم منه، وهذا أمر بديهى مشاهد في كل العلوم والمسائل. نعم قد يخطئ العالم ولكن الله لم يكفه إلا أن يعمل بما علم وبما وصل إليه اجتهاده. وهذا بالضرورة في المسائل النظرية الخلافية، وأما المسائل المعروفة من الدين معرفة قطعية، وهي الأشياء المتواترة تواترًا علميًّا أو عمليًّا، فليست محل اجتهاد ولا خلاف. ولا يسمى الأخذ بها مقلدًا، لأنها قطعية يقينية. وأكثر العلماء المتقدمين من أئمة الفقه والحديث إنما كان هذا شأنهم، درسوا المسائل وعرفوا أدلتها وعرفوا أقوال الأئمة ورضوا منها ما اطمأنت له قلوبهم وأخذوا به، فظنهم الجاهلون مقلدين، وإنما هم مجتهدون وافق اجتهادهم اجتهاد غيرهم.
وممن أفاض القول في وجوب الاجتهاد على العلماء ومنع التقليد العلامة ابن القيم في (اعلام الموقعين) فليرجع إليه من شاء يقتنع والحمد لله.
أحمد محمد شاكر