للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وكان الفتح الإسلامي، فبرزت مدينة تونس من الظلمات إلى النور فجاة، وسجلت اسمها في صفحات التاريخ بوصفها المدينة الإسلامية التي ورثت بعض مفاخر قرطاجنة، ثم سرعان ما أخذت تنافس مدينة القيروان. فلما استولى حسان بن النعمان عام ٦٩٨ م على قرطاجنة، العاصمة القديمة، ودمرها بادر إلى البليدة القائمة عند نهاية البحيرة وأخذ يحولها إلى قاعدة بحرية تقلع منها الأساطيل في سفرات نائية، ويحتمى فيها من مباغتة الروم. وشيد في تونس "دار الصناعة" ولعله جلب من مصر ألف أسرة قبطية تزود هذه الدار بمهرة الصناع. ولسنا نعرف عن المدينة نفسها في هذه الفترة شيئًا محققًا وكل الذي نستطيع أن نتبينه ظنون يشوبها الابهام عن أصل مختلف الشعوب التي نزحت إليها: فالذي لاشك فيه أنه نزلها أولًا تجار وعمال نصارى ثم أخذ سكانها يتضاعفون بمن أسلم من أهلها، ومن انضم إليهم من الجند العرب وكانوا غلاظًا مشاغبين (١) والمسجد الجامع هو أول بناء إسلامي بحق شيد لغرض ديني، وقد ظل قبلة أهل المدينة قرونًا، وفي رواية أن الذي شيده هو ابن الحَبْحاب عامل بنى أمية (وقد بنى عام ١١٤ هـ الموافق ٧٣١ م) وهو الذي جدد كذلك دار الصناعة. ولكنا لا نعرف من الذي شيد الأسوار التي قال اليعقوبى إنها كانت كلها من الطين اللبن إلا عند البحيرة، كانت من الحجارة. وصفوة القول أن تونس لم تكن كالقيروان في انتظام نشأتها، فقد نمت فجاة، وتبدلت حياتها السياسية والدينية والاجتماعية تبدلا عظيم الخطر وتهيأت لشأنها الجديد الذي أملته الظروف وإرادة فاتحها البعيد النظر، ولعل ذلكُ لم يكن طفرة كما يتبادر لأول وهلة بل تم على مراحل.

وأخذت مدينة تونس تتوسع في تجارتها إبان القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، ولكنها كانت مع ذلك مشهورة بصفة خاصة بتدريس الفقه


(١) هذا الوصف لا يطابق حال الجند الفاتحين الذين نشروا في البلاد هداية، وأنقذوها من ظلمات الجهالة والاستعباد.
محمد الخضر حسين