أصول وعوامل قد تبدو بعيدة كل البعد عما يجرى الآن في ذلك القطر الإسلامي الخاضع منذ سنة ١٨٨١ لحكم دولة أوربية حديثة. فالواقع أن الإسلام الذي انتشر في تونس وفي غيرها من أقطار الشرق القديم حل في قطر قديم له وضع جغرافي خاص قد شكله الفينيقيون ثم الرومان تشكيلًا خاصًّا- أصبح القطر إسلاميًا، ولكن القوى الكامنة أو الظاهرة والاتجاهات المستترة أو البارزة استمرت بعد الفتح الإسلامي فعالة قوية التأير. ولا يسعنا في هذا التمهيد الموجز أن نتولى شرح شيء من ذلك، إنما يكفى أن نحيل القارئ على دراسات الأستاذ كوتييه (E.F. Gauite) وبخاصة على كتابه القيم Les Siecles obscurs du Maghreb, Paris ١٩٢٧. في هذا الموضوع.
متى بدأت تونس تتخذ طريقها نحو وضعها المعاصر؟ أو بعبارة أخرى: متى بدأت العوامل الفعالة في تشكيلها بشكلها المألوف لنا؟ نرى أن ذلك كان في القرن العاشر الهجرى عندما امتد نفوذ الدولة العثمانية إلى ذلك القطر. وقد ترتب على ذلك من أول الأمر اتخاذ الأقطار المغربية قاصيها ودانيها التقسيم الجغرافي السياسي المعروف كما ترتب عليه اندماج القطر التونسى في العالم العثمانى بكل ما في هذا من نتائج خطيرة.
وقد تعرضت الأمم العربية والأوربية التي دخلت في نطاق العالم العثمانى لأحداث أكسبتها لونًا من الموحدة التاريخية، كما أن القوة العثمانية حالت بلا شك دون اتصال تلك الأمم بالحضارة الأوربية الناهضة، وإن كان الباحث المنصف لا يستطيع أن يسلم بأن الأوربيين في القرن السادس عشر وما تلاه من الأزمنة كانوا على استعداد لأن يقدموا للمسلمين وللمسيحيين من رعايا السلطان العثمانى ثمرات نهوضهم العلمي هدية خالصة. والمنصف لا يجهل أن تقدم الحضارة الأوربية كان في أغلب الأحايين اسما مرادفًا لما كانت تقوم به الأسرات المالكة في أوربا من الحروب في سبيل المجد، بشد أزر الملوك - ولكن في سبيل المجد الأعلى - رجال الدين، وفي سبيل