فى التعقل. مما يجعل هذا التفكير يشوبه فى كثير من الأحيان شئ من الأناة والتأرجح مع قلة عناية بالتطبيق. وقد اعتمد أبو حنيفة على الرأى والقياس، ولم يجاوز فى ذلك الحد المألوف عند مدارس الفقه الأخرى فى زمانه، وقد جرى على نهج ممثلى المذاهب الأخرى، كارآء أهل المدينة، فكان مثلهم قليل الميل إلى العدول عن مذهب السلف بالنسبة لأحاديث الآحاد، وهى الأحاديث التى بدأت تشيع فى الفقه الإسلامى فى حياة أبى حنيفة فى النصف الأول من القرن الثانى للهجرة.
ولما أصبحت هذه الأحاديث من المسلمات لدى المعنيين بالتحديث بفضل ماجاء به الشافعى بعد ذلك بجيلين اتخذ أبو حنيفة لأسباب وقعت اتفاقا كبشا للفداء على اعتبار أنه يعارض الأحاديث النبوية، كما اتخذ كذلك كبشا للفداء لقوله بالرأى فى المذاهب الفقهية القديمة، ولكثير من الأقوال التى نسبت إليه وصادفت هوى من نفوس الناس الذين جاءوا من بعده.
وكان الخطيب البغدادى المتوفى سنة ٤٦٣ هـ (١٠٧١ م) هو لسان تلك النزعة المعادية لأبى حنيفة. وكان مما نُقد أيضا الحيل الفقهية التى نماها أبو حنيفة فى المسلك المألوف حين تدليله الفقهى الاصطلاحى. ولكن هذه الحيل أصبحت بعد من خصائص شهرته (انظر Schacht في Isl، سنة ١٩٢٦, ص ٢٢١ وما بعدها).
وقد كان لأبى حنيفة من حيث هو متكلم أيضا أثر كبير، فهو أصل مأثور عام من الفقه العقائدى. يعنى عناية خاصة بأفكار جماعة المسلمين والمبدأ الذى يوحدها وهو السنة، وبجمهور المؤمنين الذين يتبعون طريقا وسطا ويتجنبون التطرف، ويعتمد على الكتاب أكثر من اعتماده على البراهين العقلية، وهذا المأثور يمثله كتاب "العالم والمتعلم" الذى ينسب خطأ إلى أبى حنيفة، و"الفقه الأبسط" الذى نشأ بين تلامذة أبى حنيفة ثم فى أعمال المتكلمين الحنفيين بعد ذلك، بما فيها أقوال الطهاوى المتوفى سنة ٣٢١ هـ