الحاكم بعد هذه الفعلة التى ثار لها الناس إلى الشعب ليشد أزره فى هذه السن اليافعة التى يحتاج فيها المرء إلى كل عون. على أنَّه ما لبث أن أتى من الفعال ما يدل على استقلال خطير فى الرأى لم يعد معه فى حاجة إلى سند.
الدور الثانى من سنة ٣٩٠ - ٤٠٨ هـ = ١٠٠٠ - ١٠١٧ م:
وربما استطعنا أن نتبين خلق الخليفة من المجرى الذى سار فيه بعيد وفاة برجوان إذا عرفنا البواعث الكامنة تحت ذلكم التعصب الدينى الشديد الذى جعله يسعى جاهدا إلى التشدد فى تطبيق بعض أحكام الإِسلام بصفة عامة تطبيقا حرفيا وإشاعة آراء الشيعة الإسماعيلية بين أناس ما زالت آراء أهل السنة غالبة عليهم.
فإذا كانت هذه الظاهرة هى أبرز ما اتسمت به تصرفاته كلها فقد كان يزيدها تعقيدًا شعور مطلق بالقوة أخذ يتملك هذه الشخصية العجيبة شيئا فشيئا وأهواء قلّب لا تقف عند حد تمتزج بها امتزاجا قويا طبائع فطرت على القسوة والبطش. وقد تفسر هذه النزعات - التى ذكرناها أول ما ذكرنا - تلك الأحكام الجائرة التى أصدرها حتى سنة ٣٩٩ هـ الموافقة سنة ١٠٠٨ - ١٠٠٩ م:"كمنع شرب الخمر ومنع أكل أصناف من الطعام وفرض القيود على النساء وهكذا". ولا شك أن بعضها قد قصد به أهل السنة، كما تفسر لنا أيضا اضطهاده أهل الكتاب اضطهادا شديدًا لا رحمة فيه كإصداره المراسيم التى تحتم عليهم ارتداء زى خاص وهدم معابدهم وكنائسهم. وظل النصارى رغم هذا يشغلون أرقى مناصب الدولة، وهذا يدل على أنه كان من المستحيل حتى فى ذلك الوقت الاستغناء عن مقدرتهم وكفايتهم.
وقد دفعه تعلقه بمذهب الشيعة إلى بناء عدة عمائر، فشيد جامع "راشدة" وجامع "المقسى" والجامعة الكبيرة المعروفة باسم "دار العلم"(أو الحكمة) التى فتحت أبوابها فى جمادى الآخرة سنة ٣٩٥ هـ (مارس سنة ١٠٠٥ م) كما أتم بناء جامع "الحاكم" عام ٣٩٣ هـ (١٠٠٢ م) أو سنة ٤٠١ هـ (١٠١٠ م)، وكان الخليفة العزيز قد بدأ فى إقامته.