الأمر تسامحا عظيما فى أمور الدين فشئ يتفق تماما وعقائد الإسماعيلية التى كانت غالبة عليه إذ ذاك، فأبطل العقوبات التى سنّها، وبدأ النصارى واليهود يتنفسون الصعداء؛ والقصة التى ذكرها كوفمان (Kaufmann فى Zeitschr. der Deutsch. Morgenl Gesells جـ ٥١، ص ٤٤٢ وما بعدها) هى خير مثال على ذلك، على أن أهل البلاد المسلمين هبوا يحاربون الآراء الملحدة التى كان يدعو إليها دعاة المذهب الجديد جهرة، وكان من أثر هذا أن الحاكم حبس فى قصره وهو القصر الذى عرف أن درزى مثير الخواطر كان مختبئا فيه. ومع ذلك فقد استطاع "الحاكم" أن يمهد لدرزى سبيل الفرار إلى لبنان حيث أسس طائفة الدروز، وما زال هؤلاء يقدسون "الحاكم بأمر الله" معتقدين فيه وينتظرون عودته.
ولم يتردد الخليفة فى صب جام غضبه على مدينة الفسطاط مهد الثورة، فقامت إثر ذلك معارك طاحنة بين الترك والبربر من ناحية وبين الزنوج المتغطرسة من ناحية أخرى، فدبت الفوضى فى العاصمة وأخذت الحالة تسير من سئ إلى أسوأ، ثمَّ حلت ساعة الخلاص فجأة باختفاء الخليفة اختفاء غامضا فى ليلة ٢٧ شوال سنة ٤١١ هـ (٢٣ فبراير سنة ١٠١٢)، وقد جرى القول بأنه قتل بتحريض أخته ست الملك إلا أن هذا القول ليس له سند كاف (Druzes: de Sacy، جـ ١، ص ٤١٦ وما بعدها).
وإذا درسنا أطوار سيرته فإننا لا نستبعد ما ذهب إليه ميلر (Mueller جـ ١، ص ٦٩٣) من أن الحاكم قد عمد إلى الاختفاء عن أعين الناس لما تبين له استحالة نشر دعوته فى مصر.
وقد تأثر المؤرخون المسلمون؛ والكتّاب النصارى - المغرضون بطبيعة الحال - بادعاء الحاكم الألوهية آخر الأمر فتحيفوا عليه ولم يقدروا هذه الشخصية الفذّة فى نهجها، وعدوه حاكما طاغية مخبولا متعطشا للدماء، وبادروا فنسجوا حول شخصيته الغريبة سلسلة من الأقاصيص السخيفة التى لا تزال تفتقر إلى تمحيص دقيق. وتأثر معظم المؤرخين الأوربيين بهذا الرأى أيضًا ولم يشذ