ثم إن تضخم التأثير الغربى فى أثناء حرب القريم وبعدها والضغوط الداخلية السياسية والاقتصادية قد ساعدت على وقوع إحياء للأفكار والأنشطة التحررية فى العقد السادس من القرن التاسع عشر الميلادى ففى تركية أبرز شناسى أهمية حرية التعبير فى مقالاته الافتتاحية فى مجلة "ترجمان أحوال"(العدد ١، سنة ١٢٧٧ هـ = ١٨٦٠ م) ومجلة "تصوير أفكار"(العدد ١، ١٥ يونيه سنة ١٢٧٨ هـ = ١٨٦٢ م). وفى سورية كتب الكاتب المسيحى فرانسيس فتح اللَّه المرَّاش حوارًا رمزيا (غابة الحق، بيروت سنة ١٨٦٦، وأعيد طبعه فى القاهرة سنة ١٢٩٨ هـ = ١٨٨٠ - ١٨٨١ م) تضمن مناقشة فلسفية سياسية للحرية والظروف اللازمة لتدعيمها.
وأكثر دخولا فى السياسة فى مضمونه كتاب كاتب مسلم هو خير الدين باشا المشهور الذى كان من واضعى القانون الدستورى التونسى لسنة ١٨٦١ م ("أقوم المسالك فى معرفة أحوال الممالك"، تونس سنة ١٢٨٤ - ١٢٨٥ هـ = ١٨٦٧ - ١٨٦٨ م؛ الترجمة الفرنسية necessaires Reformes musulmans aux etats، باريس سنة ١٨٦٨ م؛ النسخة التركية، إستانبول سنة ١٢٩٦ هـ = ١٨٧٩ م). وفى هذا البرنامج الإصلاحى الجانح إلى المحافظة درس خير الدين منابع الثورة والسلطة فى أوربا، ووجد أن هذه المنابع تكمن فى النظم السياسية فيها، تلك النظم التى تحقق العدل والحرية. وقد جعل خير الدين العدل والحرية صنوين لا يفترقان، وأدلى ببعض التوصيات الحذرة أو قل الغامضة عن كيفية تحقيقهما فى الدول الإسلامية دون الخروج أو الابتعاد عن التقاليد والنظم الإسلامية، وذلك بالاعتماد على المشورة، ذلك أن مشورة العلماء والأعيان هى المرادف الإسلامى الموثوق به للنظام الأوربى الخاص بالحكومة التمثيلية والدستورية. ويجوز لنا أن نلاحظ فى هذا الصدد أن خير الدين فى رياسته للوزراء فى بلاد تونس فى السنوات (١٨٧٣ - ١٨٧٧) م, وفى توليه منصب الصدر الأعظم فى تركية فى سنة (١٨٧٨ - ١٨٧٩) م، لم يفعل شيئًا لإعادة الدستورين اللذين كانا قد أوقفا فى البلدين جميعًا.