بعده. ولما كان أبو العتاهية يطوى بين جوانحه منذ حداثته نزعة قوية إلى التقشف، فقد مج حياة العبث بالبلاط العباسى. وما إن اعتلى هارون العرش، حتى هم أبو العتاهية أن يهجر الشعر، ولكن هارون الرشيد استبد به وأجبره على التخلى عن هذا الرأى بزجه فى السجن مرة أخرى. وتختلف الروايات فى عام وفاته. وتذكر الرواية التى تعزى إلى ابنه محمد. أنه توفى عام ٢١٠ هـ (٨٢٥ م) وتذكر روايات أخرى أنه توفى عام ٢١١ هـ (٨٢٦ م) أو عام ٢١٣ هـ (٨٢٨ م).
وقد وصفه معاصروه بأنه كان حر الفكر لأنه أنكر البعث. وقد حاول أبو العتاهية أن يجد حلا لمعضلة الإثنينية، فقال إن الله خلق جوهرين متضادين منهما انبثق كل شئ وإليهما يرد كل شئ.
ولم تصل إلينا جميع أشعار أبى العتاهية، ويمتاز شعره ببساطة الأسلوب ونسق واضح من المعانى. وكان يزدرى كل الازدراء فخامة الشعر البدوى القديم التى انحطت بتغير الأحوال وأصبحت مجرد صناعة تقليدية. وكان يرغب فى نظم شعر يفهمه الناس، لذلك كان أهم ما يحفل به فى قصائده المعانى التى كان يقصدها وتحتوى معظم قصائده على حكم وعظات ليست بينها رابطة قوية. وجل تلك القصائد التى وصلتنا فى "الزهديات" وأهم ما تمتاز به التشاؤم الواضح. فالزهد عنده يبرره فناء ما فى هذه الدنيا، فهو يرى أن العالم سلسلة من الألم متصلة الحلقات، والصفاء فيه ممتزج بالأكدار أينما كان، ولا رجاء فى السعادة إلا لمن حمل بين جنبيه نفساً قنوعة.
وبالرغم من هذه النظرة السوداء إلى الحياة، فإننا لانجد فى فلسفة أبى العتاهية أثرا لذلك العويل المتخنث، فهو فيها قوى حازم ولولم يكن جذلان مغتبطا، وهو يحمل أثقال الحياة لأنه مجبر على حملها.