ولا نعرف الزمن الذى انتقل فيه أبو مدين إلى فاس، ويحتمل أن يكون ذلك قد حدث فى أخريات دولة المرابطين، أو فى بداية الموحدين، وإذا جاز لنا أن نحكم من العلوم التى كانت تدرس حينذاك فى جامعات فاس، ومن أبرزها علم الحديث، فإنا نستطيع القول بأن المغرب كان وقتئذ تحت سلطان الموحدين.
ويظهرنا كتاب التراجم من العرب على أن أبا مدين كان متفننًا فى علوم الإسلام المختلفة، نقليها وعقليها. ونرى مما تقدم أن أبا مدين كان بفاس فى الوقت الذى انبعثت فيه مذاهب الموحدين فى بلاد المغرب، ونهضت فيه العلوم الكلامية والفقهية بتأثير تلك المذاهب، ولكن يظهر أن الطالب الأندلسى الحدث لم يبد أى ميل نحو هذه الأنظار الجديدة، لأن ذوقه وجهه إلى التصوف بصفة خاصة، وهداه إلى سلوك هذا الطريق الشيخ أبو يعزى الذى بلغ به إلى مرتبة الوصفى الكامل بالصيام والصلاة وأقصى ضروب التقشف. ولم يجد أبو مدين -لفقره المدقع- آية صعوبة فى قطع علائقه وملذاته الزائلة، فتنقل متدرجًا فى كل مراتب الصوفية حتى بلغ مرتبة "القطب" و"الغوث".
وبعد أن مكث عدة أعوام بفاس انتقل الصوفى الشاب إلى مكة حيث لقى -كما يقال- الولى الكبير عبد القادر الجيلانى فارتبط به بصلات الود، وأتم بإرشاده علومه الصوفية.
ولما عاد أبو مدين من المشرق انصرف إلى تعليم الصوفية فى بلاد المغرب. فاستقر فى بجاية ناسكًا نسكًا شديدًا، وسرعان ما اشتهر بولايته وعلمه، وهرع إليه الناس من أقصى البلاد يسألونه ويأخذون عنه. وكان له قبل نزوحه من فاس كرامات، وأظهر مثلها أثناء رحلته فى المشرق وبعد عودته إلى بجاية.
وكانت تعاليم أبى مدين الصوفية التى قام بنشرها فى بجاية تخالف مذاهب فقهاء الموحدين فى تلك المدينة،