وقد أشار ده بور أيضًا إلى فارق آخر بين الفارابى وغيره من فلاسفة مدرسته، وهو أن ابن سينا لم يجعل المادة صادرة عن الله كما جعلها الفارابى. ويقول هذا الكاتب إن الفارابى تصور المادة على أنها فائضة عن الله بتنقلها فى أوساط روحية مختلفة. ولست أعتقد أن هذا الرأى صائب، ذلك لأن الفارابى فى رسالته المسماة مبادئ الموجودات، التى بقيت لنا ترجمتها العبرية بقلم موسى بن نبون طبعة فبليبوفسكى Philoppowski فى الكتاب السنوى ليبسك سنة ١٩٤٨ م) يذكر سلسلة المبادئ على وجه يجعلها أشبه شئ بالفيض: إذ يفيض عن الله العقل الأول أو العلة الأولى، ويفيض عن هذه عقول الأفلاك على ترتيبها وآخرها العقل الفعال. ويتلو ذلك النفس الكلية ثم الصورة ثم المادة آخر الأمر. تتمشى
إلهيات ابن سينا مع هذا الترتيب.
والمادة التى نتحدث عنها هنا هى جوهر العالم الذى يحمل إمكانه. فالعالم يبدأ وجوده من هذه المادة وليس يخرج مباشرة من العدم الصرف. والأفلاك السماوية التى تستمد حياتها من نفوسها إنما قد حركها المحرك الأول، وليس هذا المحرك هو الله نفسه ولكنه العقل الأول الصادر عنه.
وحاول الفارابى التوفيق بين أرسطوطاليس وأفلاطون فى مسألة قِدم العالم. ففى رسالته المسماة "الجمع بين رأى الحكيمين أفلاطون الإلهى وأرسطوطاليس" زعم أن أرسطو لم يعتقد بقدم العالم: فالخالق أبدع العالم دفعة واحدة فى غير زمن، ثم حركة المحرك الأول فنشأ "الزمان" عن حركة الأفلاك. وبعبارة أخرى يكون الزمان متأخرًا بالذات عن وجود العالم بالفعل. ومع هذا فإن فلاسفة هذه المدرسة قد ذهبوا إلى أن اللاتناهى من جهة الماضى أمر ممكن: فوفقًا لابن سينا لا يمكن أن يوجد فى آن واحد (بالفعل) عدد لا يتناهى، ولكن يمكن أن يوجد عدد لا يتناهى إذا لم تكن أجزاؤه موجودة معا بالفعل فى آن واحد. فيمكن أن يقال إن