لأنه كان أميل إلى المنطق والرياضيات والأنظار الصوفية. ونجد هذين الشقين ملتئمين فى فلسفة ابن سينا.
على أننى بينتُ فرقاً بين أبى نصر وابن سينا فى موقف التصوف من مذهبيهما. فالتصوف لا يظهر فى مذهب ابن سينا إلا فى آخره تاجاً يتوِّجه، وهو جزء منفصل تمام الانفصال عما عداه من أجزاء مذهبه، وقد عالجه بمهارة فائقة على أنه فصل من فصول فلسفته التى كان عليه أن يبسطها من وجهة موضوعية بحتة. والأمر على نقيض ذلك عند الفارابى، فالتصوف يتخلل جميع مذهبه، وعبارات المتصوفة شائعة تقريبًا فى كل أقواله، وكأنما التصوف عنده ليس نظرية من النظريات وإنما هو
حالة ذاتية. وقد ساهمت هذه الحالة الذاتية فى جعل مذهبه غامضا بعض الشئ.
ومن المعروف أن ابن سينا أكثر وضوحًا وأسد منهجًا وأقوم نظامًا من الفارابى، وقد بلغت الفلسفة الإسلامية بمصنفاته إلى أكمل صورها؛ نلمس هذا التباين فى وضوح الفكرة عند تعرضهم لمسألة هامة هى مسألة خلود كل نفس على انفرادها. فالإنسان على الحقيقة هو النفس الناطقة أو "العقل" الذى يشرف عليه عالم الروح والمعانى أى "العقل الفعال" ودلك العقل هو ما يبقى من الإنسان بعد موته ولكن هل يبقى متحد، بالعقل الفعال؟ أم يظل مستقلاً بذاته حافظًا لمشخصاته؟ كتب أبو نصر بعض فقرات على وجه يجعلنا نعتقد بأنه كان من أنصار الرأى الأول، ومع ذلك فلا سبيل إلى الشك فى أنه كان يعتقد بخلود كل نفس على انفرادها، فهناك فى كتابه "المدينة الفاضلة" فقرة يبين فيها أن النفوس الخيرة تصل إلى المدينة السماوية، وأن كل واحدة منها تذوق من اللذة ما يعدل عدد النفوس كلها. وقد زعم ابن طُفَيْل أيضًا -وكان لا يميل إلى أبى نصر على ما يظهر- أن فيلسوفنا كان متشككًا فى خلود كل نفس على انفرادها (S. Munk: مقاله عن الفارابى فى Dic- tionnaire (des Sciences philosophiques) وهذا الاتهام يجب أن يعزى سره إلى بعض فقرات كتبها الفارابى على وجه ناقص غامض.