ولنبدأ بالجزائر، حيث حاول الأمير عبد القادر أن يقوم بتنظيم دولة مسلمة تواجه السلطة الفرنسية، وأن يزودها خاصة بقوة عسكرية كافية تمكنها إذا قضت الضرورة من أن تقاتل القوات الفرنسية. ولكن الظروف أجبرت عبد القادر على توجيه اهتمامه الأكبر للحرب. ومنذ سنة ١٨٤٠, اضطرته حركة "بوجو" إلى أن يكتفى بحكومة بدوية ألزمتها الضرورة أن تتحاشى كل الأفكار الحديثة.
وفى تونس، كانت الأمارات الأولى لإدخال النظم الحديثة ترجع إلى النفوذ الفرنسى، الذى استقر فى الجزائر، وظهرت خلال حكم أحمد باى (١٨٣٧ - ١٨٥٥) وبدأت الإصلاحات العسكرية أيضًا هناك مع تجنيد جيش وأسطول فى "ثغر الحديد". ولكن سرعان ما تفاقمت الصعاب المالية واتجه أحمد باى للإصلاح المالى.
وكان محمد باى (١٨٥٥ - ١٨٥٩)، خليفة أحمد باى، مضطرًا بحكم الظروف وضغط بعض القناصل الأوربيين إلى إدخال إصلاحات أكثر شمولًا، فأنشأ المحكمة الشرعية للنظر فى مسائل قانون الوراثة وملكية الأراضى سنة ١٨٥٦، ثم أصدر رسميًا فى ١٠ سبتمبر ١٨٥٧ مرسومًا يطلق عليه بالعربية "عهد الأمان" وبالفرنسية " Pacte Fondamental" وفى السنوات التالية، أقيمت فى تونس حكومة محلية من أعيان المواطنين.
وكان خليفة محمد باى أخاه محمدًا الصدوق الذى أعلن فى ٢٦ أبريل ١٨٦١ سلسلة من الإجراءات التشريعية التى يمكن اعتبارها دستورًا، واستشار فى ذلك نابليون الثالث بالجزائر فى العام السابق. وظلت أحكامه فيما يختص بخلافة العرش لا تتغير حتى سنة ١٩٥٧. وأقيمت وزارة مسئولة أمام الباى، وهى مجلس أعلى من ٦٠ عضوًا يعينهم الباى. وشاركت الحكومة فى المسئولية التى ترمى إلى تطوير الجهاز القانونى والتصويت على ميزانية الدولة، وأعلن استقلال القضاء. ولكن هذه الإصلاحات أدخلت قبل أن يتأهب لها الرأى العام فى تونس بل الطبقات الحاكمة. ومنذ أن أدى الموقف