للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

إنه قد تيسرت لى حين مقامى (١) ببلادى (برزة)، برفقائى إلى بعض المتنزهات (٢) المكتنفة تلك البقعة، فبينا نحن نتطاوف إذ عن لنا شيخ بهي قد أوغل في السن وأخنت عليه السنون وهو في طراءة العز (٣) لم يهن منه عظم ولا تضعضع له ركن وما عليه من المشيب إلا رواء من يشيب -فنزعت إلى مخاطبته وانبعثت من ذات نفسى لمداخلته ومجاورته (٤)، فملت (٥) برفقائى إليه فلما دنونا منه بدأنا هو بالتحية والسلام وافتر عن لهجة مقبولة، وتنازعنا الحديث حتى أفضى بنا إلى مساءلته عن كنه أحواله واستعلامه سنه وصناعته بل اسمه ونسبه وبلده فقال أما اسمى ونسبى فحي بن يقظان، وأما بلدى فمدينة بيت المقدس، وأما حرفتى فالسياحة في أقطار العوالم حتى أحطت بها خبرًا ووجهي إلى أبي وهو حي، وقد عطوت منه مفاتيح العلوم كلها فهدانى الطريق السالكة إلى نواحى العالم حتى زويت بسياحتى آفاق الأقاليم، فما زلنا نطارحه المسائل في العلوم ونستفهمه غوامضها حتى تخلصنا إلى علم الفراسة، فرأيت من إصابته فيه ما قضيت له آخر العجب، وذلك أنه ابتداء لما انتهينا إلى خبرها فقال: "إن علم الفراسة لمن العلوم التي تنقد عائدتها نقدا فيعلن ما يسره كل من سجيته فيكون تبسطك إليه وتقلصك عنه بحسبه، وأن الفراسة لتدل منك على عفو من الخلائق ومنتقش من الطين وموات من الطبائع (٦) وإذا مستك (٧) يد الإصلاح


(١) حين مقامى بتلك البقعة، أي وقت إقامتى، وبلاده هي بدنه وأعضاؤه التي هي محل قواه ويريد ببرزه النهضة والتيقظ إلى أن وراء حيلة البدن والأعضاء حياة روحية أخرى.
(٢) المتنزهات: هي الأمور البعيدة عن الأحوال التي كان فيها من قبل ويريد بها المعقولات.
(٣) أي لم يغيره الزمن بل حاله ثابت دائم لا يتغير كما يتغير الجسم.
(٤) يلاحظ القارى أن تعبيراته تعبيرات أعجمية غامضة لا كما هو الشأن عند ابن طفيل، ومقاصد أي بواعث.
(٥) أي عرفت المناسبة التي بين العقل وبين الغرائز.
(٦) أشار بذلك إلى ما يحصل للإنسان بقوة علم الفراسة الذي يريد به علم المنطق من تمييز بين الصدق والكذب والحق والباطل, وإلي ما جبل عليه.
(٧) "وإذا مستك يد إلخ" أشار به إلى أنه مع ذلك مستعد للرذائل وأنه يصير إلى الفضائل أو الرذائل بمقتضى الدواعي من العادات والأفعال.