للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يتكلم، فلما كان ذات يوم بكى واستند وتكلم، وبالغ في إبراز المعانى العجيبة والاشارات الغريبة، فلما سئل في ذلك، أجاب بقوله: كان ذو النون بمصر حيا، فما تكلمت ولا استندت إجلالًا له، والآن قد مات، فقيل لى: تكلم فقد أذنت (١).

فإذا تركنا العناصر العلمية الشرعية والعلمية التصوفية التي يمكن أن يكون قد أفادها ذو النون ممن عاصرهم من أصحاب الشريعة وأرباب الحقيقة، ووقفنا عند العناصر العملية التي كان يأخذ هو بها نفسه. وكانت تعمل هي عملها في نفسه، وكان لها أثر في تصفية قلبه من شوائب حسه، ألفينا حياته الروحية الخاصة حافلة بما يظهرنا على أنَّه لم يكن عالمًا فحسب، ولا آخذًا للعلم عن غيره فحسب، وإنما كان فوق ذلك عاملًا على أن يحيا حياة روحية قوامها التوبة إلى الله والزهد في الدنيا والصبر على المحنة والرضا بكل ما تقضى به مشيئة الله والتوكل على الله والتسليم له والإقبال عليه، وما إلى ذلك من مقومات الحياة الروحية الحقة التي ينبغي أن يحياها الصوفى المتحقق، والتى سنتبينها معه في موضعها من الحديث عن تصنيفه للمقامات والأحوال، وكشفه عن حقيقة المثل الأعلى الَّذي يجب أن يحققه الصوفى المتحقق في القول والفعل سواء فيما بينه وبين ربه أو فيما بينه وبين نفسه أو فيما بينه وبين أشباهه. وحسبنا هنا أن نتبين كيف اتجه ذو النون في حياته إلى هذه الوجهة الروحية، وما هي بعض مظاهر تلك الحياة عنده: فقد روى المترجمون وأصحاب الطبقات على لسان ذى النون نفسه قصة لعلها تظهرنا من خلالها على أنَّه كان يحيا أول الأمر حياة إنسانية كتلك التي يحياها الناس جميعًا، يخضعون فيها لسلطان نفوسهم، وتفق فيها الشهوات والملذات والمنافع المادية العاجلة نفوسهم، ولكنه ما لبث أن عرض له عارض وبدا له باد، فإذا هو يتوب، وقصارى هذه القصة أن ذا النون سئل عن سبب توبته، فأجاب بقوله: خرجت من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق في بعض الصحارى، ففتحت عينى، فإذا أنا بقنبرة عمياء سقطت من


(١) اللمع: ص ١٨؛ الكواكب الدرية، ج ١، ص ٢٢٤.