المعانى، وإن ذا النون ليذكرنا هنا بما يصطنعه الإسماعيلية الباطنية من تأويل وتخريج للمعانى الخفية من الألفاظ الظاهرة، ومن يدرى فلعله كان متأثرا بهم، وإن كانت تلك مسألة لا تزال في حاجة إلى دراسة مقارنة على ضوء المعلومات التاريخية والمؤثرات
الداخلية والخارجية في عصر ذى النون وحياته ومذهبه.
ومهما يكن من شيء فإننا واجدون لدى ذى النون كلاما لعله أن يكون أقرب إلى كلام الإسماعيلية الباطنية فيما يذهبون إليه من حديث عن النجباء والدعاة والقائمين بالحجة والأئمة المستورين: فكل أولئك ألفاظ اصطلاحية إسماعيلية نجدها فيما تحدث به ذو النون عن هؤلاء الذين خلصت عبادتهم لله من عباد الله وهذا نصه: "إن لله (صفوة) خالصة من عباده، ونجباء من خلقه، وصفوة من برّيته، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها في الملكوت معلقة، أولئك نجباء الله من عباده، وأمناء الله في بلاده، والدعاة إلى معرفته، والوسيلة إلى دينه، هيهات بعدوا وفاتوا، ووارتهم بطون الأرض وفجاجها؛ على أنه لا تخلو الأرض من قائم فيها بحجته على خلقه لئلا تبطل حجج الله ... أولئك قوم حجبهم الله عن عيون خلقه، وأخفاهم عن آفات الدنيا وفتنها ... "(١).
٢ - وإذا تركنا هذه الناحية الروحية العامة لمذهب ذى النون الصوفى وما تشتمل عليه من عناصر عملية، وانتقلنا معه إلى الناحية التيوزوفية الخاصة لهذا المذهب، ألفينا له نظرية في المعرفة وأخرى في المحبة، وكلتاهما تنطويان على كثير من المعانى الفلسفية التي ظهرت لأول مرة في تاريخ التصوف الإسلامى عند ذى النون، وكان ظهورها عنده في صورة ساذجة بسيطة، ثم
أخذت هذه الصورة تدق وتتضح رويدًا رويدًا على أيدى من تعاقب بعده من الصوفية بصفة عامة، حتَّى تهيأ لها من الدقة والوضوح والتمام أكبر حظ عند الصوفية المتفلسفين، أو الصوفية الذين وقع التزاوج في مذاهبهم بين التصوف والفلسفة الإلهية وعلم الكلام من أمثال محيى الدين بن عربى، وعمر بن الفارض، ويحيى السهروردى المقتول