للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= الكرامة العقلية تحول بينه وبين مثل هذا التصوير للحياة والتاريخ وسنن الاجتماع بإنكار أن شيئًا ما، بل شيئًا كبيرًا، قد طرأ على الحياة فى الجزيرة العربية مطلع القرن السابع الميلادى، وكان خليقا بأن يغير من أمرها وأمر أهلها تغييرا لا يجعل حياتهم بعد هذا التاريخ استمرارًا لحياتهم قبله. . على أنا نسرف فى حسن النية، ونقف عند كلمة معطوفة على هذا الاستمرار، فإن الكاتب يقول -استمرارا أو تطورا- فنقول: إنك بكلمة "التطور" تعترف بالتغير. فهل كان التطور المغير لحياة العرب بظهور الإسلام تغيرا هينا يسيرا يجعل حياتهم بعده استمرارا لحياتهم قبله؟ وتكون مغازيهم فى سبيل الدعوة الجديدة استمرارًا وتطورا لتطاحنهم العصبى القبلى، الذى كان بجهالته وحمقه عاملا منفرا للواعين فيهم من هذه الحال البشعة، التى جعلت الدعوة الإسلامية تحولا جوهريا فعالا فى حياتهم. . . ولم يكن من الطبيعى أن يكون ما بعدها استمرارا لما قبلها!
والغريب أن الكاتب قد قال قبل ذلك: إن فكرة جمع قصة حياة النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- فى رواية متتابعة ليست فكرة قديمة فى الجماعة الإسلامية. ومعنى هذا أنه قد مضى وقت بعد الدعوة الإسلامية أيضًا قبل أن توصف تلك المغازى فى السيرة. فكان الدعوة الإسلامية نفسها لم تغير من اتجاهات العرب، ولا الزمن نفسه -وقد مضى منه ما مضى قبل العناية بوضع السيرة- قد غير من اتجاهات أولئك العرب الجاهلية. وإنه لكثير أن يستعصى حال هؤلاء العرب على الزمن، بعد ما استعصى على المحاولة الإصلاحية الإسلامية نفسها، سواء كانت دعوة سماوية -كما يؤمن أصحابها- أو حتى محاولة بشرية كما يدين هذا الكاتب!
على أنا لا نمتنع عن الإمعان فى التغابى ونسميه حسن رأى فنقول لأنفسنا لعل الكاتب يريد أن يقول: إن وصف المغازى هو الذى كان استمرارا وتطورا لوصف أيام العرب. لا نفس المغازى وأحداثها وأهدافها. ولكنا لا نجد الطريق النافذ إلى هذا الفرض المصطنع, لأننا لم نتلق من العصر الجاهلى وصفا نثريا لأيام العرب حتى يجد الكاتب المشابهة بينه وبين وصف المغازى، بنحو ما قاله من اشتراكهما فى الأسلوب العذب المرسل، وفى الجنوح إلى قطع حبل الرواية, وغير ذلك مما يقول فى شرح هذه المشابهة، ويكون مراده أن القول فى المغازى كان استمرارا وتطورا للقول فى أيام العرب. .!
وحتى هذا الربط بين المغازى وأيام العرب فى أسلوب السرد أو القص أو الوضع لا نجده إلا دعوى متكلفة لأن الحافز على العناية بأيام العرب غير الحافز على العناية بالسيرة، وما فيها من المغازى؛ ولأن من الطبيعى أن تكون الدعوة الإسلامية قد قدمت صورة للبطولة، والتمست هدفا من الحرب. مغيرة لصورة البطولة فى الجاهلية وهدف الحرب فى الجاهلية، بحكم ما لا يمكن إنكاره أبدًا من فعل الزمن الذى يقرره الكاتب بقوله إن فكرة وضع السيرة ليست قديمة فى الجماعة الإسلامية، أى أنها وجدت بعد مضى زمن على ظهور الإسلام، وهو ما لا بد أن يغير من نظرة المسلمين للمغازى عن نظرتهم لأيام العرب.
وفى النهاية لا يسهل القول بأن المغازى والسير ليست إلا استمرارًا وتطورا لأيام العرب فى طبيعتها وغايتها؛ ولا حتى يسهل القول بأن المغازى والسير ليست إلا استمرارًا وتطورا لأيام العرب فى أسلوبها وسردها -ونقرأ فى التعليق التالى ما ينقض به الكاتب نفسه كلامه.
أمين الخولى