وبالنظر إلى القوة الطبيعية التى ظهرت بها عقيدة الشيعة المنطوية على كثير من المسائل، فى دنيا الإسلام التى كانت هى أيضا حافلة بمسائلها الخاصة، فإننا نستطيع أن ندرك أن الشخصيات التى تعتبر رؤساء للفرق فى جماعات الشيعة اليوم هى شخصيات لا تبتكر بقدر ما تحيط وتحدد، لكننا نستطيع أن ندرك أيضا أن الإجماع كان دائمًا يقتصر على دائرة صغيرة. وإذا استعمل الشيعة كلمة إجماع؛ فإن المقصود بذلك عند كل طائفة منهم لا يعدو الدائرة الضيقة لأهل هذه الطائفة، وهى ترى فى نفسها أنها وحدها الفائزة بالنجاة.
على أن هذا التحديد لم يصب نجاحا كبيرًا فى ميدان العقائد. ذلك أن الزيدية والإمامية انضموا آخر الأمر إلى المعتزلة ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة المحضة، كما يتبين من الآراء التى دارت حول القرآن: فمن بين الاعتقادات التى سبق بيانها كان الاعتقاد الثالث قمينا بأن يتغلب على الثانى. إذ بمرور الأيام لم يكن هناك إلى جانب الإمام باعتباره الضامن للاعتقاد الحق محل للنظرية القائلة بأن القرآن غير مخلوق. وكان من المنطقى أيضًا أن يعمد الإمامية فى سبيل إدخال الكتاب المنزل فى معتقداتهم فى الامامة أن يؤولوه تأويلا رمزيا، وأن يحاربه الغلاة ويدلسوا فيه بل ينكروه وينقلبوا باطنية ولم يكن المعتزلة هم الذين مهدوا لذلك فحسب، بل إنه بسبب الاقتباس من الفلسفة -ولو أن هذا الاقتباس إنما كان يسعى فى المحل الأول إلى الشكل- دخلت الفلسفة فى الفراغ الذى خلا بالإيمان الغيبى بالوحى. وهكذا صار علم العقائد ثيو صوفية وغنوصية.
على أننا لا نكون قد كشفنا عن الأصل فى دوافع التشيع، إذا نحن عدنا فأكدنا الأمر الذى أصبح بينا فى ذاته بعد ما تقدم، وهو أن آراء غنوصية وأفلاطونية محدثة ومانوية وإيرانية قديمة، قد اختلط بعضها ببعض فى هذا المقام (١) لكنا بقدر ما نعرف اليوم لا
(١) قد يكون هناك مجال أيضا للبحث عن أصول هندية قديمة للتشييع. (المترجم).