فصبر عوضته منهما الجنة، يريد عينيه" (البخارى المرضى، باب ٧: أحمد ابن حنبل، جـ ٣، ص ٢٨٣).
ونلاحظ أخيرًا أن معنى ترك الدنيا فى كتب الأحاديث الصحاح قلما يرد، وهذا المعنى يكتسب شأنًا عظيمًا فى تصرف الزهاد الخلقى. (انظر ما ذكرناه آنفًا عن الآيتين ٤٥، ١٥٣ من سورة البقرة). وقد جاء فى الباب العشرين من كتاب الرقاق للبخارى (وهو ككتاب الزهد فى غير ذلك من مجموعات الحديث، يمثل أقدم مرحلة لهذه النزعة فى الإسلام) أن عمر قال: "وجدنا خير عيشنا بالصبر". وإنا لنستطيع فى هذا المقام أن نتتبع أثر التفكير اليونانى المتأخر الذى كان يرى أن ترك الدنيا هو الحياة التى تناسب الرجل الحق، والرجل الحكيم والشهيد. .
وما ذكره القرآن الكريم والحديث عن الصبر يتردد بعضه فى الكتب الأخلاقية الصوفية، ولكن كلمة الصبر قد غدت فى هذا المقام ما نستطيع أن نسميه مصطلحًا بمعنى الكلمة، ذلك أن الصبر هو الفضيلة المثلى فى هذا المذهب من مذاهب الفكر. ونحن نجد تعريفات عديدة للصبر شأنه شأن غيره من المفاهيم الأخرى الجوهرية، وهى تعريفات تدل فى كثير من الأحيان على خصب الخيال أكثر من دلالتها على الشرح المستقصى للفكرة، ولكن هذه التعريفات عظيمة الفائدة لما تلقيه على الموضوع من ضوء أشبه بلمحات البرق. ويسوق القشيرى فى رسالته (طبعة بولاق، ص ٩٩ وما بعدها) هذه المجموعة من التعريفات للصبر: "تجرع المرارة من غير تعبيس" (الجنيد)؛ "التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة" (ذو النون)؛ "الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب" (ابن عطاء)؛ "الفناء فى البلوى بلا ظهور شكوى"؛ "الصبار الذى عود نفسه الهجوم على المكاره" (أبو عثمان)؛ "الصبر المقام مع البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية"؛ "الصبر هو الثبات مع اللَّه تعالى وتلقى