النورمندى، ذلك أن العرب كانوا قد نسوا حتى ذلك الحين فنون السلام الرفيعة فى تلك اللجَّة من الحروب المتوالية، أما بعد فقد أكرهتهم الحوادث على الانطواء على أنفسهم فتبينوا ما فى أدبهم وأشعارهم وقوانينهم وعلومهم من كنوز، ولم يتخلصوا فحسب من القتال، بل نعموا أيضًا بحماية روكر حماية كاملة، ذلك أن روكر لم يكن متحزبًا فى مسيحيته، ثم إنه شجع هؤلاء المسلمين على أن ينموا مواهبهم، إن لم يكن قد شجعهم على أن ينشروا دينهم، بل لقد اتهم هو نفسه بأنه مسلم، ذلك أن روكر كان رجلا غير مثقف، وإذ رأى بعينيه اللتين لم تظلهما غشاوة التعصب عبقرية العرب العظيمة، أبى أن يقتل روح هذه العظمة، فمنح المسلمين الحرية التامة فى ممارسة شعائر دينهم، بل حرم على المسيحيين أن يبشروا بدينهم بين العرب، كما خفف من وطأة النظام الإقطاعى النورمندى على المسلمين، وأخذ بنظام الإدارة الإسلامى، بل أبقى على الموظفين المسلمين فظلوا يعملون تحت إمرته، وقيل إن معظم تجار باليرمو أثناء السيادة النورمندية كانوا من المسلمين، على أنه ما من شك فى أن أحسن رجال المال الذين كانوا عنده كانوا من المسلمين، وكانت الأرض بأسرها يزرعها المغاربة دون سواهم، ذلك أنهم كانوا قد أظهروا فى الأندلس براعتهم فى فلاحة الأرض حتى جعلوها تؤتى أطيب ثمارها؛ وكان ورق البردى وقصب السكر والكتان والزيتون تزرع بوفرة فى الجزيرة، وكانت نظم الرى العظيمة تطبق حيث يشح الماء، ويستغل كل جزء من أجزاء الجزيرة، وقد يقال إن عدد من كانوا يقيمون فى وادى مازر Mazara فى هذه الحقبة من الزمن لم يكونوا يقلون عن المليونين، وكذلك ازدهر علم الطب، ولم يكن بلاط روكر مشهورًا ببراعة أطبائه فحسب بل كان مشهورًا أيضًا بكثرة عددهم. وازدهرت اللغة العربية بوصفها وسيلة التفاهم الكبرى كما كانت هى اللغة الرسمية، وهنالك شنفت آذان اليونانيين والنورمنديين قصائد العرب وقصصهم التى تشيد بالصحارى العربية، وهنالك أيضًا نقلت روائع أفلاطون وأرسطوطاليس إلى