للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ويدل على ظهور الصيام باعتباره رياضه اختيارية غايتها قهر الشهوات بين المسلمين الأولين فى مكة ما يغلب على الظن من أن محمدًا (عليه الصلاة والسلام)، وهو فى أسفاره الكثيرة، لاحظ هذه العبادة عند اليهود والنصارى. لكن لا يمكن القول بشئ يقينى فى ذلك (٥).


= وإنما كانوا موحِّدين من أهل الرزانة والجد المبتعدين عن مفاسد الجاهلية. وتدل تسميتهم بالحنفاء على صلة بدين إبراهيم؛ لأن إبراهيم كان معروفا عند العرب قبل الإسلام بأنه "حنيف"، والحنيف هو المائل عن الوثنية والشرك. وإذا كان القرآن قد سمى إبراهيم عليه السلام بهذا الاسم فلابد أن يكون لذلك أساس ما فى معارف المخاطبين بالقرآن. وفى الأخبار التى وعتها كتب العلماء المحققين ما يدل على بقاء أتباع لدين إبراهيم قرونا متطاولة، وعلى أن الحنيفيين الذين كانوا فى مكة كانوا يعرفون أنهم بقايا أتباع دين إبراهيم (راجع مثلا كتاب تاريخ الفلسفة فى الإسلام، تأليف دى بور، الطبعة الرابعة ١٩٥٧؛ ص ٢٢ - ٣٢؛ وكتاب الملل والنحل للشهرستانى ط. القاهرة ١٩٦١ (كيلانى) جـ ٢ ص ٢٤١). ولما جاء الرسول [-صلى اللَّه عليه وسلم-] بالإسلام أكد أنه جاء يبنى على دين إبراهيم عليه السلام. وكان العرب يعرفون من تراثهم الموثوق به أن إبراهيم عليه السلام هو بانى البيت الحرام فى مكة، وأن نسب الرسول [-صلى اللَّه عليه وسلم-] يتصل من طريق معد بن عدنان بإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ولم يستطع العرب على شدة حرصهم على معارضة الإسلام، أن يثيروا ظلا من شك حول ذلك ولا أثاره علماء أهل الكتاب فى ذلك العصر. ونسب الرسول عليه الصلاة والسلام كان معروفا عند العرب وعند أهل الكتاب وهو مذكور فى كتب المؤرخين القدماء بحسب ما عرفه العرب وأهل الكتاب على السواء.
ويتبين من كل ما تقدم أنه لا يوجد أساس لرد ما كان عليه الحنيفيون إلى يهودية ولا إلى نصرانية.
وإذا كان فى الإسلام شئ موجود فى ديانات منزلة سابقة فذلك لأنه دين منزل مثلها، وهو قد جاء مصدقا لما قبله من الأديان ومصححا ومكملا لها. وما هو مشترك بينه وبينها ليس بتأثر ولا بتقليد وإنما هو تجديد التشريع المتقدم وتشريع جديد وذلك من قبل اللَّه باعث الرسل بالشرائع. والهدى الإلهى فى أصوله وروحه واحد.
(٥) اتضح مما تقدم، وحتى من كلام كاتب المادة نفسه، أن الصوم كان معروفا فى مكة، ولم يكن النبى عليه الصلاة والسلام بحاجة إلى أن يعرف ذلك من رحلات ولا من أسفار. وهو رسول يتلقى التعليم من اللَّه. والكاتب بقوله إنه لا يمكن القول بشئ يقينى يعترف بأن كلامه ظن. والباحث المحقق فى غنى عن مثل هذا.
وهو إذ يزعم أن ما تحكيه السيرة والروايات الإسلامية يجوز أن يكون غير برئ من الغرض يقول كلاما مبهما ولا سبيل إلى معرفة مقصوده. فهل هو يقصد مثلا شيئًا من قبيل ما جاء فى الحديث الصحيح (البخارى مثلا كتاب الصوم) من أن قريشا كانت تصوم يوم عاشوراء فى الجاهلية؟ إن كلام الكاتب يثير الشك من غير دليل، وهو يعلم أن الروايات الإسلامية كانت موضع تمحيص من جانب العلماء، وهم لم يسجلوا إلا الصحيح. وما كان موضع نظر أو شك نبهوا عليه.
أم هو يقصد شيئًا من قبيل ما روى فى السيرة من أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتحنث فى رمضان؛ أو ما فى بعض الروايات الإسلامية من ان صوم رمضان كان قد فرض على الأمم السابقة. وما هو دليل كاتب المادة على أن اللَّه لم يتعهد الرسول بالهداية كما تعهد من قبله من الرسل، أو على أن الصوم لم يكن قد فرض من قبل.
ومهما كان الأمر فإن صيام اليهود والنصارى شئ يفترق عن الصيام فى الإسلام =