للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= الاستدلال، نجد تعلقا بأوهام ومزاعم وفروض لاسند لشئ منها, ولا يظفر قارئها بنتيجة واحدة تلزم عن مقدمتها. وهاك أمثلة من ذلك:
يزعم بليسنر M.Plessner كاتب مادة رمضان ان صوم رمضان فرض للاستعاضة عن صوم عاشوراء. وهذا زعم لا أساس له، لأن الصوم من حيث هو رياضة روحية وارتفاع بالإنسان عن الحياة الحيوانية، يجب أن يكون من أركان كل دين حق، والقرآن إذ يذكر فرض الصوم على المسلمين يذكر أنه فرض على الأمم الذين من قبل وذلك لأنه سبيل للتقوى.
والصوم الذى كان يصومه اليهود هو صوم الكفارة الذى ذكر فى سفر اللاويين، إصحاح، ١٦/ ٢٩, وهو صوم تكفير وتطهير يحصل يوما واحدًا فى السنة، وهو لا يذكر مستقلا بل فى سياق طقوس شكلية معتدة، ولا يذكر لفظ الصوم صراحة، بل يذكر "تذليل النفس" فأين هذا من فرض شهر كامل للصوم فرضا صريحا ظاهر الهدف! ؟ وليرجع القارئ إلى سفر اللاويين ليرى بعد ما بين التكفير وصومه عند اليهود وبين صوم رمضان فى الإسلام.
مثال آخر: يذكر بليسنر بحثا كتبه كويتين F.Goitein عن رمضان وفيه لفت النظر إلى "التوافق بين رسالة محمد [-صلى اللَّه عليه وسلم-] ونزول الألواح الثانية من شريعة موسى عليه السلام وقد جاء فى الروايات أنها نزلت فى يوم الكفارة (عاشوراء السابق الشبيه لرمضان) فكان ذلك هو السبب فى جعله يوما دينيا.
ما هذا الكلام؟ وأى علاقة منطقية أو واقعية أو تاريخية، وأى شبه هناك بين نزول وحى على نبى فى يوم معين وفرض صوم شهر فى دين آخر بعد نحو من ألفى عام، أى علاقة بين يوم من شهر يتخذ يوم كفارة فى دين وفرض شهر كامل آخر ليكون شهر حياة روحانية وعبادة وبر فى دين آخر! ؟ .
مثال آخر: يذكر بليسنر عن كويتين أنه استعيض فى الإسلام عن صوم يوم عاشوراء بالأيام العشرة لا بشهر كامل، وهذا هو الذى يفهمه كويتين من عبارة {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} فى آية الصوم، ثم يقول إن ذلك يتفق مع أيام التوبة العشرة السابقة على يوم الكفارة والتى بقيت إلى اليوم ماثلة فى أيام الاعتكاف العشرة.
وظاهر تمامًا أن هذا الكلام كله ليس له سند أصلا. فقد كان صوم المسلمين يوم عاشوراء بحسب الفكرة القى أشرنا إليها فيما تقدم فى السنة الأولى للهجرة، وفى السنه الثانية فرض صوم شهر رمضان ولم يفرض على المسلمين صوم عشرة أيام كما يزعم كويتين. فأما معنى عبارة {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} فإنه بعيد عما فهمه كويتين كل البعد. فعند بعض المفسرين أن معناها هو ما كان واجبا قبل فرض شهر رمضان، وهو صوم يوم عاشوراء أو صوم ثلاثة أيام من كل شهر؛ وعند البعض الآخر من المفسرين أن معنى العبارة هو رمضان نفسه (راجع مثلا تفسير البيضاوى وتفسير الفخر الرازى لآية الصوم) ويكون معنى معدودات هو: "مؤقتات بعدد معلوم" أو"محصيات" أو محددة العدد لها بداية ونهاية تجعلها معينة.
هذا ما يذكره بليسنر متابعا لكويتين، ثم هو يزيد من عنده ما يدل على تعلقه بأوهام أخرى:
من ذلك زعمه أن آراء المسلمين فى ليلة القدر التى نزل فيها القرآن بحسب ما جاء فى سورة القدر تتفق من عدة نواح مع يوم الكفارة عند اليهود؛ وهذا، فى زعمه، يرجح آراء كويتين بعض الترجيح على الرغم مما يعترضها من صعوبات مثل عدم استطاعته تعليل استقرار فريضة الصوم عند شهر برمته.
ويوم الكفارة عند اليهود ليس سوى يوم كفارة وتطهير مقترن بطقوس شكلية كما تقدم القول، وهو فى عاشر يوم من الشهر السابع من السنة العبرية. أما ليلة القدر فهى فى العشر الأواخر (دون تعيين) من رمضان وهو الشهر التاسع من السنة العربية. وليس فى التوراة أكثر من وجوب التكفير والتطهر فى يوم الكفارة، وليس فيها شئ عن قيمة اليوم فى نفسه -هذا على خلاف ما جاء فى القرآن الكريم من تعظيم ليلة القدر فى ذاتها، من أنها {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أو أنها =