للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سينا" اتخذا موقفهما داخل دائرة البحث الفلسفى التى كانت جد مختلفة عن دائرة المتكلمين. وقد كتب "أحمد أمين" فى "ضحى الإسلام" أن الفلاسفة على خلاف المعتزلة كانوا فلاسفة أولا ورجال بالدين بعد ذلك؛ وأنهم كانوا يكترثون بالدين فقط متى وقع الخلاف بينه وبين تأملاتهم الفلسفية، سعيا للتوفيق بينهما. ولسنا الآن فى سبيلنا إلى تناول الدفاع الجدلى أو التبريرى عن العقيدة، بل لتناول دائرة واسعة من المنظورات الفلسفية التى هى أساسا من وحى الفلسفة الإغريقية، وإن اشتملت بالتأكيد على بعض التأثيرات الإسلامية، والتى تهدف إلى تبيان اتفاقها البعدى a posteriori مع القرآن الكريم.

والبحث المنطقى يشغل المكانة الأولى، والاتفاق مع مبادئ العقيدة غالبا ما يتم تحقيقه بالقدر الوافى عن طريق التأويل الواسع للنصوص القرآنية. وقد كان المحيط الذى عاش فيه "الفارابى" و"ابن سينا" مصطبغا بوضوح بالتأثيرات الشيعية، أو كانت تسوده، ولم تكن الحواشى التفسيرية على القرآن الكريم أمرا غير مألوف، ولم تكن صحة عقيدة الفلاسفة موضع شك فى ذلك المحيط. لكن الأمور اختلفت ابتداء من القرن ٥ هـ/ ١١ م فصاعدا بعد انتعاش المذهب السنى؛ إذ سرعان ما صار الفلاسفة -جنبا إلى جنب مع المعتزلة والمجسمة- خصوما وعرضة لهجمات الكلام الأشعرى والماتريدى. وقد قام الغزالى بتلخيص أفكارهم بموضوعية فى "المقاصد"؛ ثم تكفل بمناقضتها فى مؤلفه الشهير "تهافت الفلاسفة"، ووصم فيه عشرين من معتقداتهم بالخطأ، ودفع أربع منها بأنها موجبة للتكفير هى: أزلية العالم سلفا -أزلية العالم مستقبلا- التفسير الرمزى لنشور البدن -إفتقار اللَّه إلى المعرفة بالفرد فى حد ذاته. والترجمة الذاتية للغزالى المعنونة "المنقذ من الضلال" تؤكد بدورها على أخطاء الفلاسفة وعلى ما كانوا يمثلونه من خطر على العقيدة. وبعد ذلك بعدة عقود نال "الشهرستانى" لقبه "عدو الفلاسفة".