الانصراف إلى القدس بدلًا من مكة التى كانت إذ ذاك عاصمة منافسه عبد اللَّه بن الزبير، ليسوق من الأخبار ما يلقى الضوء على هذا النضال السياسى من أجل الخلافة. وقد صادفت هذه النظرية قبولًا عند بعض المغرضين من كتاب التاريخ الإسلامى ولكنها لم تستطع الصمود، إذ ليس هناك أبدًا من كبار المؤرخين المسلمين من رجال القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى) الذين فصلوا أحداث الصراع بين عبد الملك وابن الزبير تفضيلًا دقيقًا، ولا بين الجغرافيين القدماء (بما فيهم المقدسى وهو من أهل القدس) أقول ليس هناك بين هؤلاء ولا هؤلاء من يشير -ولو إشارة عابرة- إلى مثل هذه النزعة من جانب الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان، بل نطالع ما يخالف هذا الرأى حين ننظر فى الطبرى (تاريخ، جـ ٢ ص ٧٨١ - ٧٨٣) وغيره من المؤرخين فنراهم يقررون فى جلاء قيام جند عبد الملك بن مروان بالمشاركة فى أداء الحج سنة ثمان وستين للهجرة (= ٦٨٧/ ٦٨٨ م)، بل إنهم كانوا حريصين على أداء هذه الشعيرة حتى أثناء حصار مكة، ذلك الحصار الذى أنكره عليهم ابن الزبير، وكان لابد له بطبيعة الحال أن يرفضه (انظر الأنساب للبلاذرى جـ ٨ ص ٣٦٠). وبالإضافة إلى ذلك فمن الواضح أنه لم يكن فى قيام عبد الملك بمثل هذا العمل ما يؤدى إلى دعم موقفه، بل كان لابد لمثل هذا الأمر أن يعرّض مكانته للخطر إن هو حاول القيام بتغيير وجهة الحج من البقاع المقدسة التى نص عليها القرآن الكريم أو تبديل القبلة فى الصلاة، لأنه إن فعل ذلك فإنه يكون قد هدم أحد أركان الإسلام الخمسة، ووضع نفسه فى زمرة "الكفار"، وأصبح "الجهاد" ضده "فرض عين".
أما المصدران الآخران القديمان اللذان يشيران إلى الزعم بأن عبد الملك حاول ببنائه قبة الصخرة أن يجذب الحجيج إلى بيت المقدس فهما اليعقوبى جـ ١ ص ٣١١. وانيوخيوس جـ ٢ ص ٣٩، وقد تصدى للرد عليهما جماعة من المؤرخين تبينوا ما فى روايتهما من فساد وخلل إذ قالا إن الأمويين نهوا عن الحج إلى مكة مما يناقض تمام