للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

سعى الشيطان لتخليطه (١) (سورة الحج، الآية ٥١؛ انظر Noldeke Schwally:


(١) كنا -ولا نزال- نرى أن أنفس ما يقتبس عن الغرب فى الدراسات الشرقية والاسلامية، إنما هو أساليب البحث العلمى، وطرائق النقد الدقيق الحر المنتظم. ولكنا نشهد بين الفينة والفينة، أن تلك الأساليب، وهاتيك الطرائق، تلتوى وتضطرب، بين أيدى رجال من المجلين فيهم، فلا يكاد يصلحها إلا ملحظ دقيق قد جرى عليه المشارقة فى دراستهم لتلك الشئون، التى هم أهلها الأولون، وأولو الرأى فيها، كما سنشهد فى مواضع النظر من هذه المادة.
وكاتب مادة "أصول" فى دائرة المعارف الاسلامية، عالم أقام فى مصر قلب الشرق دهرًا يغدو ويروح بين أهل العربية، وأصحاب تأويل القرآن، ودارسى الأدب، فتهيا له من سبيل العلم بذلك، ما عز على غيره، بل إنه قام فى أقوى معاهد الدراسة الأدبية الحديثة بمصر: قام فى كلية الآداب، يدرس فقه العربية لأبنائها، ويحدث عن سر اللباب من كيانها، وروح الحياة فى وجودها مما لا ينكشف إلا لخاصة العارفين بها، الذين افتقدتهم فى الشرق كله فلم تجدهم؛ ومن هنا كان أمل العلم فيه كثيرًا، وعتب الحق عليه فى سلامة أساليب التفكير، عتب على وزان ذلك الأمل ومقداره، وإنه لعظيم.
يقول الأستاذ "شاخت" إن المسلمين لم يشكوا فى قطعية ثبوت القرآن، وتنزهه عن الخطأ على الرغم من إمكان سعى الشيطان لتخليطه؛ ويستشهد لذلك بآية ٥١ - ٥٢ فى المصحف المكى- من سورة الحج، ولا يزيد على ذلك بل يحيل على تاريخ القرآن لنولدكه. فالمسألة عنده تقررت وهو قد اطمأن إليها وساقها نتيجة نقدية مسلمة" وآية الحج هى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. وليس موضع شهادتها لما يراه الكاتب، إلا ما قد يذكره المفسرون فى سبب نزولها من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اعرض عنه قومه، وساقوه، وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به، تمنى لفرط ضجره من إعراضهم، ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم لعله يتخذ ذلك طريقًا إلى استمالتهم، واستنزالهم عن غيهم وعنادهم، فاستمر به ماتمناه حتى نزلت عليه سورة النجم وهو فى نادى قومه وذلك التمنى فى نفسه، فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألقى الشيطان فى أمنيته التى تمناها أى وسوس إليه بما شيعها به فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، وروى الغرانقة؛ ولم يفطن له حتى أدركته العصمة، فتنبه عليه، وقيل نبهه جبريل عليه السلام؛ أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس؛ فلما سجد فى آخرها، سجد معه جميع من فى النادى، وطابت نفوسهم "- الزمخشرى جـ ٢ كشاف ص ٦٥ ط أميرية. هذا ما قد يقال إنه السبب فى النزول، وقد يروى بما يخالف هذا اللفظ وينتهى فى جملته إلى ماسبق. طبرى جـ ١٧، ص ١٣١ وما بعدها بطرائق مختلفة.
تلك هى القصة، وغاية ما يتعلق به المتعلق فى القول بتخليط الشيطان، قصة قديمة الوجود كما هى قديمة النقد تولاها العلماء بالهدم، منذ عهد محمد بن إسحق فى القرن الثانى الهجرى، إلى عهد الأستاذ الإمام محمد عبده فى القرن الرابع عشر؛ ونالوها بصنوف مختلفة من التوهين الحاطم.
أ - فنقدوا سندها نقدًا مرًا، إذ سئل عنها محمد بن إسحق (١٥٠ هـ) فقال: هذا سن وضع الزنادقة، وصنف فى ذلك كتابًا (أبو حيان: البحر المحيط جـ ٦، ص ٣٨١) وابن إسحق نفسه قد قيل فى الثقة به ما قيل، فكيف بما يعده هذا المصنف من وضع الزنادقة! كما قال البيهقى