وجرت العادة في المشرق أن يعقب تغير الأسرة الحاكمة انتقال مقر الحكم، وقد كان من المتعين على العباسيين بصفة خاصة أن يتخلوا عن دمشق قصبة أسلافهم التي ظلت على ولائها للأمويين، لأن هذه المدينة كانت قريبة من حدود الروم كما كان مركزها القاصى ناحية الغرب لا يلائم دولة تمتد أراضيها من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر السند. ومن السهولة بمكان أن نتوقع أن تنقل الأسرة الحاكمة الجديدة مقر ملكها من الشام، وهو إقليم فقير ضئيل الشان. إلى العراق الغنى بموارده الطبيعية. زد على هذا أن إقليم العراق قدر له أن يكون حلقة الاتصال بين العالم السامى والعالم الإيرانى فأصبح بذلك واسطة العقد بين العنصرين الرئيسيينَ اللذين تألفت منهما الجماعة الإسلامية. ومما يجدر ذكره أيضًا أنه فضلا عن أن جل قوة العباسيين كانت في فارس لاعتمادهم على جند خراسان، فإنه لا شك في أنه كانت لهم مصلحة خاصة في نقل حاضرتهم ناحية المشرق، وما إن قاموا بتأسيسها حتى غدت ذات خطر في السياسة والثقافة.
وإنا لنجد أيضًا أن السفاح أول خلفاء بنى العباس قد اتخذ مقره على ضفتى الفرات فلم يختر البصرة أو الكوفة، وهما المدينتان الكبيرتان اللتان كانتا موجودتين منذ الفتح الإسلامي الآول للعراق. وبديهى أن هذا لم يأت عفوًا. فقد كان أهل الكوفة نزاعين إلى الشغب هواهم مع العلويين، أما البصرة فكانت لا تصلح حاضرة للدولة بالنسبة لموقعها في الجنوب. وكذلك فضل السفاح الهاشمية بالقرب من الأنبار. وشيد خلفه المنصور مقرًا له بهذا الاسم على مقربة من الكوفة ولكنه سرعان ما تخلى عنه لأنه كان مجاور، للكوفة البغيضة إلى نفسه لتعصبها للعلويين، وبحث المنصور عن مكان جديد يصلح مقرًا لحكمه وجنده، واختار آخر الأمر بقعة على دجلة فوق مصب نهر عيسى، وهو أكبر قناة هن قنوات الفرات، وكان في هذه البقعة كما سبق أن بينا قرية تعرف ببغداد وعدة محلات صغيرة أخرى.
ويجدر بنا أن نعترف بأنه قد تحقق الطالع الذي أنبأ الخليفة بحسن هذا