للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الموقع وصلوحه لتشييد حاضرته الجديدة، والحق أن الخليفة لم يكن أمامه أطيب منه، لأن الأرض الخصبة التي تمتد بين دجلة والفرات عند اقتراب أحدهما من الآخر حيث تصل بينهما قنوات صالحة في بعض أجزائها للملاحة فتألف من هذا كله مجموعة مائية منظمة، وحيث يصب ديالى (١) في دجلة فيكون ممرا طبيعيا يمكن بواسطته الوصول إلى الهضاب الإيرانية المرتفعة، هذه الأرض كانت على الدوام موطنا للحضارة ومهدًا للثقافة الشرقية القديمة ومركزًا للتجارة وملتقى عدة طرق تصل بين مختلف الأمم. فقد تعاقبت في هذه البقعة الحواضر العظيمة مثل بابل وسلوقية وطيسفون، وورثت مدينة الخلفاء الجديدة هذه الحواضر، وكانت على مسيرة يوم (سبعة فراسخ أو حوالي أربعين كيلو مترًا) من طيسفون العاصمة التي سبقتها في الزمن مباشرة.

والحق أن امتداد البطائح في المجرى الأسفل للفرات جنوبي بابل وصعوبة الاتصال الملاحى المتزايدة بالخليج الفارسى يفسر لنا لماذا كان موقع العاصمة منذ العهد السلوُقى يختار دائمًا على نهر دجلة.

وضع المنصور أول حجر في بناء عاصمته الجديدة عام ١٤٥ هـ (٧٦٢ م) وجمع العمال من بابل وغيرها، ويقال أن عددهم بلغ مائة ألف، فأتموا في أربع سنوات انشاء مدينة عظيمة على الشاطئ الغربي لدجلة وفق خطة تجعلها مدوّرة وبنى في وسطها قصر الخليفة المعروف بباب الذهب أو القبة الخضراء، والمسجد الجامع، وجلبت معظم الأحجار اللازمة للبناء من أطلال طيسفون المجاورة، وقد نشأت المدينة بمعناها الحقيقي حول نواة مدورة ثم قسمت إلى أحياء ضفصلة وسرعان ما اتسعت اتساعًا كبيرًا، ومن الواضح أن المنصور قد شعر سريعًا أنه منعزل في قصره لتزايد السكان من حوله، أو لعله لم يكن آمنا على نفسه، فشيد بعد بضع سنوات من بناء المدينة المدورة


(١) يغلط معظم كتاب الشرق في كتابة هذا العلم "ديالى" بالتاء الملفوفة وصوابه الألف المقصورة.
عبد الرراق الحسينى