للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقد بين ابن رشد كيف ينبغى أن يعلم الدين تبعا لمدارك الناس، فقسم الناس تبعا لمواهبهم العقلية إلى ثلاث طبقات: الأولى -وهى أوسع الطبقات- تتألف من هؤلاء الذين يوعظون بكلام الله فيؤمنون، وهم لا يستجيبون إلا للخطابيات؛ والثانية تتألف من اولئك الذين يتم اعتقادهم بعد البرهان، ذلك البرهان الذى يعتمد على مقدمات سبق أن اعتقدوا بها وليست موضع نقد عندهم؛ والثالثة -وهى أقل الطبقات- تتألف من أولئك الذين لا يعتقدون إلا بعد أدلة تستند إلى مقدمات يقينية وثيقة.

وهذا الأسلوب فى تعليم الدين وفقا لمدارك الناس يدل على أن ابن رشد كان عالما نفسيا خبيرا، ولكن قد يستهدف صاحب هذا الأسلوب إلى الاتهام بالغرض، ومن ثم نفهم لماذا أثار هذا الأسلوب شكوك رجال الدين.

ولسنا نعتقد بعد هذا كله أن ابن رشد كان مارقا على الدين حاول أن يحتمى من هجمات أهل السنة بما ذهب إليه من تأويلات تتفاوت قوة وضعفا، بل نعتقد أنه كان ينزع- مثل كثير من علماء المشرق- إلى التوفيق بين المذاهب المتضاربة، قائلا بإخلاص إن الحقيقة الواحدة يمكن أن يتصورها الإنسان بصور مختلفة، ووصل بفضل مقدرته الفلسفية العظيمة إلى التقريب بين المذاهب التى تبدو واضحة التنافر لدى العقول القليلة المرونة.

وقد نقل شروح ابن رشد إلى العبرية فى القرنين الثالث عشر والرابع عشر يعقوب الأنطولى (١٢٣٢ م) وهو من مدينة نابلى، وموسى بن تبون (١) (١٢٦٠ م) وهو من مدينة لونيل، وقلونيموس (٢) (١٣١٤ م)، وشموئيل بن تبون (٣)، ويهودا بن سليمان كوهين


(١) كان موسى وشمونيل من أسرة تبون المشهورة التى انجبت عددا غير قليل من عظماء اليهود وفلاسفتها فى القرن الثانى والثالث عشر للميلاد، استوطنت جنوب فرنسا بعد أن هاجرت من الأندلس من جراء اضطهاد دولة الموحدين لليهود.
(٢) هو قلونيموس بن قلونيموس بن ماير الذى عرف عند الافرنج باسم Maestro Caln ولد سنة ١٢٨٠. وتوفى سنة ١٣٢٨ للميلاد.
(٣) اشتهر شموئيل بن تبون بترجمته لكتاب "دلالة الحائرين" للفيلسوف اليهودى موسى بن ميمون من العربية إلى العبرية، وكان ظهور الترجمة العبرية حادثا عظيما فى الحياة العقلية عند اليهود في الغرب والشرق.