دلالة الألفاظ، وتأثرها في هذا التدرج يتفاوت ما بين الأجيال وبفعل الظواهر النفسية والاجتماعية، وعوامل حضارة الأمة، وما إلى ذلك مما تعرضت له ألفاظ العربية في تلك الحركة الجياشة المتوثبة التي نمت بها الدول الإسلامية، والنهضة الدينية والسياسية والثقافية، التي خلفت هذا الميراث الكبير من الحضارة ... وقد تداولت هذه اللغة العربية في تلك النهضات أفواه أمم مختلفة الألوان والدماء والماضى والحاضر، فتهيأت من كل ذلك خطوات تدريجية فسيحة متباعدة في حياة ألفاظ اللغة العربية، حتَّى أصبح من الخطأ البين أن يعمد متأدب إلى فهم ألفاظ هذا النص القرآنى الأدبى الجليل، فهما لا يقوم على تقدير تام لهذا التدرج والتغير، الَّذي مس حياة الألفاظ ودلالتها، وعلى التنبه إلى أنَّه إنما يريد ليفهم هذه الألفاظ في الوقت الَّذي ظهرت فيه ولليت أول ما تليت على من حول قال ها الأول - عليه السلام - (١) - وهذا هو أحد الاعتبارات الجوهرية التي تقف في وجه التفسير العلمي للقرآن على ما أشرنا إليه من قبل.
وإذا كان هذا هو الأصل الأول في فهم دلالة ألفاظ القرآن، فمن لنا به مع أن معاجمنا لا تسعف عليه ولا تعين.؟ فأكبر ما نملكه منها - وهو "لسان العرب" لابن منظور المصري - قد كتب على طريقة المقص والغراء، كما يقول العصريون، فتجاورت فيه نصوص تباعدت عصور أصحابها، فابن دريد في أوائل القرن الرابع الهجرى (٣٢١ هـ)، يجاور ابن الأثير في أوائل القرن السابع الهجرى (٦٠٦ هـ) وتمازج لغويات الأول دينيات الثاني .. والقاموس المحيط -كما نعرفه - عصارات غير ممتزجة لثقافات متغايرة متباينه، من فلسفية عقلية إلى طبية عملية، فأدبية لغوية، فدينية اعتقادية، أو غيرها .. معاجمنا لا تسعف على شيء من تحقيق هذا الأصل الثابت في تدرج الألفاظ ... فليس أمام مفسر القرآن حين يبتغى المعنى الأول لألفاظه إلا أن يقوم
(١) لا ينكر أن خلود هذا الكتاب ورياضته الدائمة للحياة مع صلته الوثقى بها. كل ذلك يهيئ لفهم معان متجددة أو نامية لكنا مع عدم إنكار هذا القدر نرى أنَّه لا ينبغي أن تنسب إلى القرآن من هذه المعاني إلا ما كان طريق فهمه الحس اللغوي للعربية، وسبيل الانتقال إليه هو دلالة اللفظة الأولى في عصر نزول القرآن ... وبيان هذا والتمثيل له مما لا يتسع له المقام هنا.