الفرضة يغلق بسلسلة يحميها من الشمال سور ومن الجنوب حصن من الحجر يعرف بـ "قصر السلسلة". وقد أعجب البكرى بالمسجد الجامع، وكان درج مدخله (في الجانب الشرقي) كما هو الآن: اثنتى عشرة درجة، وبأسواقها الكثيرة العامرة وحماماتها، وكان فيها خمسة عشر حماماً، وأشار بكثرة زادها (الفاكهة والسمك) ولم يفته أن يذكر فخارها. ثم انتقل إلى موضوع آخر فتحدث عن إقبال أهل تونس على الفقه.
والظاهر أن تونس كانت في أمن ورخاء مايقرب من قرن، حتى وقعت الواقعة المشئومة في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي فقلبت الخالة الاقتصادية والسياسية بأسرها رأسًا على عقب، ونعنى بهذه الواقعة غزوة العرب الهلالية.
وغلب الفاتحون الجدد بنى زيرى الضعفاء على أمرهم فاعتكفوا في المهدية، ووقعت تونس زمانا في يد عابد بن أبي الغيث أمير بنى رياح عام ٤٤٦ هـ الموافق ١٠٥٤ مـ، ثم أرادت أن تأمن على نفسها فدخلت في طاعة الناصر الحمادى صاحب القلعة فأرسل إليها عامله عبد الحق بن خراسان الصنهاجى عام ٤٥١ هـ الموافق ١٠٥٩ م وسرعان ماجاهر هذا العامل باستقلاله فتأسست بذلك أول دولة تونسية، ومكنت هذه الدولة لنفسها قرناً من الزمان إلا عشرين عاما (من ١١٢٨ إلى ١٢٠٨) حتى غزاها الموحدون بعد ذلك بقرن على التحقيق.
وجار عليها أول الأمر الرياحية من بنى على، وكانوا قد وطدوا أقدامهم في المُعلقة من أعمال قرطاجنة فصالحتهم تونس لتأمن غاراتهم ووعدوا بألا يتعرضوا للناحية أو لأحد من أهلها نظير جزية سنوية، بل إنهم سرعان ماحضروا أسواق تونس للبيع والشراء جميعا. وسلمت المدينة من سعايات زيرية المهدية ونورمان صقلية، وعكر صفوها في الوقت نفسه شبوب الفتن والأحزاب المتنافسة وشغب الصف واقتتالهم والتنابذ بين الأحياء المختلفة، ومع ذلك فقد بدأت تجارتها في البحر تنفق في هذا العهد المضطرب، فانتظمت تجارتها مع إيطاليا ونمت، وازدادت