أما الحدس (itton) فهو ظفر بالمطالب وحدودها الوسطى دفعة واحدة. ومن الناس من يكون من اصحاب الفكر وحده، ومنهم من يحدس إلى جانب الفكر، ومنهم من يكون علمه كله حدسا وهؤلاء هم الأنبياء، ويسمى العقل حينئذ عقلا "قدسيا" وهكذا يجعل ابن سينا علم الأنبياء أرفع علم على خلاف الفارابى الذى يرى علم الفلاسفة أوثق وابعد عن الخيال والرمز.
ولاشك فى أن أرسطو كان يذهب إلى أن المعقولات مستمدة من المحسوسات، وقد أشار ابن سينا فى كتابه "التعليقات على كتاب النفس لأرسطو"(مخطوط بالقاهرة، ص ٦٩ - ٧٠) إلى هذا الرأى، ولكنه نبه إلى أن للمشرقيين رأيا مخالفا. ونجد رأى المشرقيين هذا مبسوطا فى كل كتبه الأخرى، وهو رأى يدفع بعلم النفس إلى مجاهل الإلهيات، ولكنه يجعل المعرفة العقلية وثيقة مطابقة للماهيات الأزلية التى لا تتغير، ذلك لأنه يذهب إلى أن المعقولات تفيض عن عقل خارج عنا أزلى أبدى انتهت إليه صور الماهيات من مبدع الكل، ذلك العقل هو "العقل الفعال"، وليس البدن وحواسه إلا وسائل تهيئ العقل الإنسانى لقبول فيض العقل الفعال. فالمحسوسات شأنها عند ابن سينا ثانوى فى المعرفة العقلية (الشفاء، النفس، م ٥، ف ٢، ص ٣٥٢، ف ٥، س ٢٥٦، النجاة، ٢٩٧ - ٢٩٩).
وقد كانت براهين القدماء على لا مادية النفس ومباينتها للجسم منطقية، أما ابن سينا فقد كان أول من لجا إلى التجربة النفسية، قال: لنتصور إنسانا خلق محجوب البصر لايرى من إهابه شيئا، متباعد الأطراف لا يلمس جزء من جمسه جزءا آخر، يهوى فى خلاء لا يصدمه فيه قوام الهواء حتى لا يحس ولايسمع، أليس يغفل مدو هذا الإنسان عن جملة بدنه؟ أليس يشعر بشئ واحد فقط هو ثبوت إنيته (نفسه)؟ فالنفس إذن موجودة وجودا غير بدنى. ونحن نجد مثل هذا البرهان عند ديكارت مما جعل بعض الباحثين- أمثال: فالوا Valois وفورلانى - يذهبون إلى إمكان اطلاع ديكارت