لنا من البحث عن أسبابها في العلاقات الأوربية التالية لهزيمة فرنسا في سنة ١٨٧٠, وفي تأثر تلك العلاقات بالأزمة الشرقية المترتبة على هزيمة الدولة العثمانية في حربها مع الروسيا سنة ١٨٧٧.
لقد بدأت حوادث سنة ١٨٧٠ عهدًا جديدًا في التاريخ الأوربى الحديث, فقد أثرت هزيمة فرنسا الكاملة وإتمام خلق الإمبراطورية الألمانية واقتطاع إقليمى الألزاس واللورين من جسم فرنسا الحى في العلاقات الأوربية حتى يومنا هذا، ويشاء موقف الدول الأوربية في العالم أن كل ما يجرى في أوربا يتردد صداه في أراض وبين أقوام "لا ناقة لهم فيه ولا جمل".
كان هَمَّ ألمانيا الجديدة بعد ١٨٧١ وشغلها الشاغل أن تمنع فرنسا من نقض ما تم في تلك السنة، واتجهت خطط عاهلها العظيم - بسمارك - نحو عزل فرنسا عزلة سياسية فلا تجد حليفًا أوربيًا قويًّا يشد أزرها في حرب ضد ألمانيا. وقد فضل بسمارك أن تقع فرنسا تمامًا تحت سلطان أحزاب اليسار الجمهورية اعتقادًا منه بأن أمل تلك الأحزاب في نيل تأييد سياسى أوربى أقل من أمل أحزاب اليمين، وأن انتصار الأحزاب الجمهورية الفرنسية يضعف من شأن الكاثوليكية في ألمانيا، وكانت إذ ذاك في حرب شعواء ضد بسمارك.
ولم يكن بسمارك بالسياسى الذي يكتفى بالإجراء السلبى, أو الذي يعتقد بإمكان قمع أمة كالأمة الفرنسية إلى الأبد، بل هناك ما يثبت أنه أدهشته سرعة نهوض فرنسا من كبوتها في السنوات التالية لسنة ١٨٧١ وأنه إعتقد أنه ينبغي أن يضع نصب أعين زعمائها أهدافًا يجدون في تحقيقها منصرفًا للهمم القومية وغسلا لعار الهزيمة الكبرى واستعادة لمركزهم القديم بين الأمم وإبعادًا لهم عن فكرة "الانتقام" المتملكة العقول - لذلك كله عرض بسمارك على فرنسا في أكثر من مرة بسط سلطانها على تونس ولم يكتف بهذا بل أدرك أنه في إرضاء المطامع الأوربية في أنحاء البلقان والشرقين الأدنى والأوسط ما يكفل صيانة ما تم