يرتبط بحادثة كان لها أثر حاسم على حياته العملية فيما بعد. وقد أفاءت عليه بعض كتبه (ولم يعد الحديث عنها بصيغة الجمع موضع شك) في الإمامة، وهو موضوع له اعتبار خاص جدًّا، ثناء المأمون، ومن ثم أسبغت عليه. قصبة الدولة ذلك الجلال الذي يطمع فيه كثير جدًّا من أهل الأرياف الذين يتشوقون إلى أن يعترف بموهبتهم على النحو فيبلغون بذلك بلاط الخلفاء ويوطدون أقدامهم. ومن يومها جرى الجاحظ على الترد على بغداد (ثم على سامراء) ويقيم فيهما مددًا طويلة، دون أن ينقطع كلية عن البصرة، منكبا على التأليف الذي أتيح لنا -لحسن التوفيق- أن ينجو من عوادى الزمان قدر منه مقدور.
وإذا استثنينا بعض الدلائل الشحيحة فإننا لانعرف حقا ما الذي كان يعتمد عليه الجاحظ في البصرة مصدرًا لدخله، أما في بغداد فنحن نعلم أنه قام ثلاثة أيام بعمل النساخ، وساعد مدة قصيرة إبراهيم بن العباس المصولى في ديوان الرسائل. ومن الراجح أيضًا أنه عمل مدرسا، وقد زعم أنه حظى بلقاء المتوكل الذي كان حريصا على أن يعهد إليه بتأديب أولاده، إلا أنه انتهى إلى صرفه عن ذلك لقبح منظره. والمعلومات عن حياته العامة والخاصة ليست بعد مواتية، سواء من السير التي كتبت عنه أو منه هو نفسه، على أنه يتضح مما تيسر لنا من معلومات أنه لم يشغل منصبا رسميا ولم ينخرط في عمل منتظم. على أن الجاحظ يسلّم بأنه تلقى مبالغ كبيرة من المال نظير إهدائه كتبه، ونحن نعلم أنه ظل على الأقل مدة يجرى عليه راتب من الديوان. والحق إن هذه الدلائل المتفرقة محيرة، وهي تجنح إلى أن تؤدى بنا إلى القول بأن الجاحظ - على خلاف بعض مواطنيه- لم يعش حياة رجل البلاط، بل كان يقوم بدور الوزير الخاص ينهض بالمهام غير الرسمية أو قل دور المستشار غير الرسمى على الأقل. وقد رأينا من قبل أن كتاباته التي أكسبته اعتراف قصبة