بلغ بالنثر الأدبى أكمل صوره، وقد اعترف بذلك حقا رجال السياسة الذين استغلوا موهبته في دعم قضية العباسيين، ثم النقاد العرب الذين أجمعوا على القول بتفوقه وجعلوا من اسمه النموذج الأكمل للقدرة الأدبية.
وتتسم كتابة الجاحظ بتدبير مقصود يقوم على عدم اتباع نهج منظم والاستكثار من الاستطرادات. وتتركز شخصية اسلوبه الواعى الرشيق في عنايته بالعبارة الدقيقة -ولاباس من اللجوء إلى كلمة دخيلة- والعبارات والجمل الطلية التي تكاد تكون في جميع الأحوال غير مقفاة وإن كانت موزونة بفضل تكرار الفكرة نفسها بشكلين مخللفين. وما يبدو عقيما بحسب طريقتنا في التفكير ينشا في عقل كاتب من القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادي) من رغبته في أن يجعل نفسه مفهوما بوضوح وأن يخلع على النثر العادى النسق الشعرى. ومع أن أسلوب الجاحظ يصعب أن يؤدى بلغة أجنبية ويكون لدى قرائها موضع تقدير، فإن تدفق عباراته متسق تمام الاتساق يتبينه القارئ للوهلة الأولى. ومع ذلك فإن الجاحظ -في نظر أغلبية العرب المتعلمين- إن لم يكن ماجنا مكتملًا، فهو على الأقل يتصف إلى حد ها بصفة المزاح. ومكانته بهذه الصفة في الأساطير يرد بعضها بلاشك إلى شهرته وقبحه اللذين جعلاه بطلًا لعديد من النوادر. ولكن هذه المكانة يجب أن ترد أيضًا إلى خاصية في كتابته لم يكن بد من أن تكسبه الشهرة بالمزاح في عالم إسلامي يجنح إلى الرزانة والجد. ذلك أنه لايحجم قط، حتى في أشد فقراته وقارًا، عن أن ينزلق إلى النوادر والملاحظات الذكية والتعليقات المسلية. وقد روعت الجاحظ الكآبة وثقل الدم اللذان كانا يرينان على أنظار عدد كبير من معاصريه، فقصد عامدًا إلى تناول الأمور تناولا أخف ظلا، وقد أتاحت له روح الفكاهة عنده أن يتناول على نحو شائق موضوعات جدية وعاونته على تعميمها. ولكنه كان يدرك أنه يأتي شيئًا أجنح إلى التنفير؛ وإن المرء لايملك إلا أن يدهش لكثرة مايحس الجاحظ بأن الأمر يقتضيه أن ينصر