قضية الفكاهة والمزاح. وخير مثال على هذا نجده في "كتاب التربيع والتدوير" (طبعة Pellat، دمشق سنة ١٩٥٥) وهو أثر رائع في الكتابة الساخرة، كما هو مختصر لكل المسائل التي يدلى فيها معاصروه بحلول مأثورة مدفوعين بسلطان العادة أو غريزة التقليد أو الافتقار إلى الخيال، أو لايدلون فيها باية فكرة على الإطلاق. ولم يكن الجاحظ يخرج عن حدود العقيدة رغم مافى هذا من بعض المشقة، ومع ذلك فإنه كان يؤمن إيمانا جازمًا بأن من حق المرء أن يعرض على محك النقد جميع الآراء المسلمة في الظواهر الطبيعية والتاريخ القديم والأساطير التي تصل إلينا على اعتبار أنها من الحقائق. وأن يعيد عرض المشاكل ويقترح لها -في براعة- حلولا عقلية. ولم يكن ذلك كل مافى الأمر، بل إن الجاحعل، وهو يعيش في زمن كانت الثقافة العربية فيه تتبلور، قد لم أشتات ما بدا له على أعظم قدر من الشأن، مستقيا إما من التراث العربي الذي كان من أنصاره الغيورين، أو من الفكر اليونانى، على أنه قد حرص دائما على أن يكبح جماح تسرب التقاليد الفارسية إلى الثقافة التي كان متشوقًا إلى أن يفيئها على إخوانه في الدين، ذلك أنه كان يعد هذا التسرب عظيم الخطر على مستقبل الإسلام.، هذا الجهد الواسع الذي يقوم على روح النقد والشك المنهجى في كل شيء من غير إنصراف مباشر إلى عقيدة الإسلام قد ضيقت القرون التالية -لسوء الحظ- من نطاقه إلى حد كبير ونظرت إليه من جانب واحد. صحيح أن الجاحظ قدر له أن يجد معجبين أعلاما مثل أبي حيان التوحيدى، ومقلدين -بل مزيفين- استخدموا اسمه ليضمنوا لآثارهم نجاحًا أعظم، إلا أن الخلف لم يبق في أذهانهم إلا خيال مشوه منقوص له، ونظروا إليه على أكثر تقدير باعتباره إماما من أئمة البلاغة (انظر Pellat في سنة ١٩٥٦/ ٢، ص ٢٧٧ - ٢٨٤) ورأس مذهب في الاعتزال (لم يكلف أحد نفسه بتعداد أتباعه) وكاتب تصانيف يستقى المستقون منفا للتوسع في كتب الأدب، وصاحب نصيب موفور من المعلومات المسجلة عن الجاهلية والقرون الأولى للإسلام.