ساورت الشاه الشكوك من نحوه وضاق ذرعًا بسلطانه الآخذ في النمو وشهرته الآخذة في الاتساع، فلم يجد جمال الدين بدا من الرحيل عن فارس متذرعًا باعتلال صحته، فذهب إلى روسيا وهناك دخل أيضًا في مفاوضات سياسية. وبقى في الروسيا إلى أن حلّت زيارته لمعرض باريس الذي أقيم عام ١٨٨٩ فقابل الشاه، الذي كان في أوربا آنئذ، في ميونخ وأغراه الشاه باصطحابه إلى فارس ولكن جمال الدين استطاع أن يبلو في هذه الزيارة الثانية كيف يتلون الحاكم الشرقي وتتقلب أهواؤه.
وقد استبان له ذلك كما لم يستبن من قبل، فقد أولاه الشاه في أول الأمر كامل رضاه وعظيم ثقته، ولكن كبير الوزراء ميرزا على أصغر خان أمين السلطان كان يطوى في صدره لجمال الدين سخيمة من السخائم، كما إنه آنس في شخص هذا العالم الغريب المستفيض الشهرة منافسًا له، فأخذ يكيد له حتى حوّل قلب الشاه عنه مستغلا في ذلك خاصة مشروعًا لجمال الدين في إصلاح القوانين، وأحسّ جمال الدين بالخطر يحدق به فأوى إلى ضريح الشاه عبد العظيم بالقرب من طهران، وكان يعد ملجأ لا تنتهك له حرمة، وأقام به سبعة شهور إلتف فيها حوله فريق من مريديه يستمعون إلى آرائه في إصاوح حال البلاد التي أذلها الطغيان، وظل على ذلك إلى أن استثار كبير الوزراء الشاه فانتهك حرمة الضريح التي كان يرعاه الناس جميعًا، وأنفذ إليه مستهل عام ١٨٩١ خمسمائة فارس مسلحين، فقبضوا عليه وكبلوه بالأغلال غير مبالين بضعف صحته، وسيق في عز الشتاء إلى بلده خانقين على التخوم بين فارس وتركية، ثم خرج من خانقين ميمما شطر إنجلترة للمرة الثانية، وتخلّف في البصرة أمدًا قصيرًا، وهناك، أي في إنجلترة، أثار بمحاضراته ومقالاته حملة شعواء على حكم الإرهاب في فارس، على أن طرد جمال الدين على هذه الصورة البشعة كان حافزًا إلى جمع صفوف حزب الإصلاح وباعثًا له على الجهاد العلنى، وهو أمر كان جمال الدين نفسه دائبًا