على أن يرجع عن غيه. ولم يكتسب من هذه المغامرات إلا لقب "المتنبى" كما اقتنع بأن الشعر وحده هو الذى يقوده إلى تحقيق أحلامه الواسعة.
وتمتاز القصائد التى نظمها أبو الطيب قبيل هذه الثورة وفى أثنائها بتدفق الشاعرية، والحرية التى كان يعالج بها قوالب الشعر، وبقوة الأسلوب الذى ظهرت فيه شخصية الشاعر أكثر من ذى قبل.
وما إن رجع المتنبى إلى احتراف المديح حتى عاد بطبيعة الحال إلى استئناف حياة التجوال (بداية عام ٣٢٥ هـ -٩٣٧ م). فعاش عيشة غير مستقرة عدة سنوات، وقنع بمدح أهل أنطاكية ودمشق وحلب وغيرها وبعض صغار العمال فى هذه المدن الذين كانوا يقترون عليه فى العطاء كل التقتير (الواحدى ٥١ - ١٣١ ياقوت: إرشاد الأريب، ج ٥، ص ٢٠٣) وذاع صيته شيئا فشيئا حتى أصبح فى أوائل عام ٣٢٨ هـ (٩٣٩ م) شاعر الأمير بدر الخرَشَانى الذى ذكره فى ديوانه باسم بدر بن عمّار، وكان واليَا على دمشق من قبل أمير الأمراء السابق ابن رائق الذى كان قد احتل الشام وشيكًا.
ولما كان بدر من أصل عربى فقد اعتبره المتنبى مولاه الذى كان ينتظره منذ أمد بعيد؛ والمدائح التى مدح بها الأمير والقصائد العارضة التى وجهها اليه فى بعض المناسبات تفصح عن صادق الإعجاب به. وتمتاز بالإلهام الشعرى الرفيع (الواحدى، ص ٢٠٦ - ٢٤٥؛ اليازجى، ص ١٣٢ - ١٦٣)، وتؤلف هذه المقطوعات مع التى سبقتها بعد رجوعه إلى عالم الأدب ما نستطيع أن نطلق عليه المرحلة الثالثة من حياة المتنبى الشعرية؛ وقد نظم المتنبى المطولات فى هذه المرحلة، هذا إذا استثنينا مقطوعة فى الصيد تأثر فيها الشاعر أبا نواس (الواحدى ص ٢٠١ - ٢٠٢؛ اليازجى ص ١٢٨ - ١٢٩) وعددًا من القطع ارتجلها الشاعر وليست لها أهمية خاصة. وقد يبدو أن المتنبى عاد فى هذه المرحلة إلى مرحلته الشعرية الأولى، إذ كانت أشعاره فى هذه المرحلة لا تدل على تقدم يذكر فى القصيدة من حيث "قالبها".