٥٨٩). ورجع أبو الطيب من بلاد الفرس إلى بغداد على مراحل قصيرة، وفى الطريق هاجمه البدو والنهابون قرب دير العاقول فى آخر رمضان عام ٣٥٤ هـ (أغسطس ٩٥٥ م) فقتل كما قتل ابنه فى عراكه معهم، فتناثر متاعه جميعًا وفى مخطوطات ديوانه التى خطها بنفسه (البديعى، ج ١، ص ٢٢٧ - ٢٣٩).
وقد كان المتنبى محاطاً، حتى فى حياته، بالمعجبين المتحمسين الذين دافعوا عن أشعاره بجملتها من هجمات الحاسدين الذين لم يكونوا أقل حماسة منهم فى الحط من شأنه. ومعظم هؤلاء نقدوا شعره فحسب لأنهم لم يكونوا راضين عن أخلاقه، ولذلك لا يمتاز نقدهم بالإنصاف، وإنما يعبر فقط عن رأى فريق من الناس. فلما توفى المتنبى نشأت طبقة ثالثة تعجب بشعره كانت أنفذ بصيرة من الأولى وأكثر حذرا من الوقوع فى التحيز والمبالغة من الثانية. (الجرجانى: الوساطة، ص ١١ - ١٢، ٤٦ - ٤٥). وسادت آراء هذه الطبقة الجديدة، فلما ذهب جميع معاصرى المتنبى ظل جمهور المتأدبين يناصر مناصرة تامة شاعر سيف الدولة، يستثنى من ذلك العسكرى وابن خلدون. ومنذ القرن الخامس الهجرى (الحادى عشر الميلادى) أصبح اسم المتنبى مرادفا للشاعر العظيم، وقد أثر على الشعر العربى تأثيرا كبيرا لا مثيل له. وأصبح ديوان المتنبى طوال العصور الوسطى والعصر الحاضر فى متناول الدارسين والأدباء من فارس إلى الأندلس بفضل كتّاب انساقوا فى الغالب إلى شرح ديوانه بدافع العاطفة لا بدافع العقل، نخص منهم بالذبمر ابن جنى وبعده أبا العلاء والواحدى والتبريزى والعكبرى وابن سيده. ولا يتسع المجال هنا للإبانة عن أثر المتنبى فى الشعر الذى جاء بعده، ويكفى أن نشير إلى أن كل شعراء المديح من العرب قد تأثروا المتنبى بطرق شتى. ولا يزال الناس يقبلون على قراءة شعره إلى يومنا هذا فى شمال إفريقية، كما أن المتأدبين فى مصر والشام ينزلونه منزلة عليا، وقد خصه كثير من النقاد بالأبحاث التى تطفح بالثناء عليه. ويظهر أن أبا الطيب يجتذب الناس فى