وكان علم الكلام الذى ورثه عن مدرسة واصل لا يزال بعدُ أوليَّا، يقوم فى جوهره على الجدل ومن ثم فإن هذا العلم عارض بطريقة غير منهجية فيما يظهر: حَشَوية العامة من المسلمين والمحدّثين، ومذهب الجبر الذى كان يؤيده الأمويون لأسباب سياسية، وتأليه على الذى كان يدعو إليه غلاوة الشيعة. ومضى أبو الهذيل فى هذا الجدل، وكان فى الوقت نفسه أول من خاض المناظرات التى قامت فى عصره، وكان مستعدًا لذلك استعداد، فائقًا بفضل عقله الفلسفى ورجاحة تفكيره وفصاحته، حتى لقد أصبح المدافع عن الإسلام ضد الأديان الأخرى وضد التيارات الفكرية الكبيرة للعصر السابق له، ألا وهى الثنوية، التى كان يمثلها الزرادشتية؛ والمانوية؛ وغيرهم من الغنوصية؛ والفلاسفة الذين استوحوا الإغريق، والدهرية الذين كان يمثلهم بخاصة أنصار العلوم الطبيعية؛ ثم أخير، المسلمين المتزايدى العدد الذين تأثروا بهذه الأفكار الدخيلة: وهم الشعراء الذين كانوا يبطنون المانوية مثل صالح ابن عبد القدوس، والمتكلمون المحدثون الذين كانوا قد اعتنقوا بعض المذاهب الغنوصية والفلسفية، وغيرهم.
والظاهر أن أبا الهذيل لم يبدأ فى دراسة الفلسفة إلا عندما أدرك سن النضوج، ففى حجه (ولا يعرف متى حج) لقى بمكة المتكلم الشيعى هشام بن الحكم وناقشه فى آرائه الحشوية التى يبدو فيها أثر الغنوصية. وعندئذ فقط بدأ يدرس كتب الدهرية.
وقد لاحظ المؤرخون المتأخرون بعض وجوه الشبه بين مذهبه فى صفات الله وفلسفة أمباذقليس المزيَّف التى وضعها الأفلاطونيون المحدثون والفلاسفة الطبيعيون فى أواخر الزمن القديم. والواقع أن مصادره الفلسفية كانت من ذلك النوع الذى تمثله بصفة عامة أرسطيّة القرون الوسطى. وقد اجتذبه هؤلاء الفلاسفة كما نفّروه، وكان وهو يدافعهم قد اصطنع مناهجهم وطريقتهم فى النظر إلى المسائل. كان مفكر، فطريًا لا سلطان لتقليد عليه فعرض للمسائل النظرية بإقدام جعله لا يتردد حتى فى بحث المحال، وهذا هو السر فى كل ما يتصف